وهنا يمكن أن نتذكر أن الترجمة الحاذقة قد تسبق أو تضارع العمل الأصلي من خلال إكسابه نكهة مضافة ولاسيما في الشعر الذي تميل به الترجمة الحرفية أو الضعيفة إلى تشويه لمعانه، وقد تكسبه ألقاً مضافاً، فمثلاً يشير ألدوس هكسلي Aldous Huxley في "الموسيقى في الليل" إلى أن إعجاب الشاعر الفرنسي بودلير بالشاعر الإنكليزي إدغار ألَن بو يعود إلى أن الترجمة إلى الفرنسية قد تجاوزت طريقة النظم الإنكليزية (التي تعاني عادة من الجفاف الموسيقي)، مما جعل بودلير يطرب لترجمة شعر إدغار آلَن بو لأنها تتمتع بلطافة موسيقية أُحكمت موازينها على نمط الشعر الفرنسي الموزون (بتأثير المترجم طبعاً).
وإذا بدا للمتلقي أن الحادثة السابقة التي توحي بأن اللغة المترجمة إلى الفرنسية تكتسب بالطبيعة ألقاً خاصاً هي حادثة موغلة في القدم، فسوف نرى في الحادثة التالية المعاصرة كيف أن ترجمة عبد اللطيف اللعبي للشاعر السوري محمد الماغوط ، من العربية إلى الفرنسية، لقيت ثناءً من نقاد فرنسيين مشهود لهم، رغم أن الماغوط كان شاعر نخبة (توفي قبل عدة سنوات) وكانت جرأة انتقاده أشد تألقاً من إشعاع فنه، وتكاد الترجمة الفرنسية لمترجم بارع مثل اللعبي تفوق الأصل جمالياً على نحو ما ذكرنا سابقاً من إعجاب بودلير بجمال نظم إدغار ألَن بو( ).
وتقتضي الأمانة أن نشير إلى أن هذا الموضوع تعرض إلى أخذ ورد على صفحات الحياة في تسعينات القرن الماضي، والأفضل أن لا نغرق في هذا الموج الانتقادي المتضارب الذي يلهي القارئ (عن كل مكرمة) ولا ينتهي به إلى شاطئ السلامة. وعلى الأرجح ينطبق هذا الحكم المتعلق بالخلافات حول الترجمات الشعرية إلى الفرنسية على ترجمة الشعر بوجه عام. وهنا من الواضح أن الترجمات الشعرية إلى اللغة العربية لم تلقَ أي نجاح أو رواج، اللهم إلا إذا كانت القصيدة المترجمة متعلقة بحادثة ما ذات أهمية أو باسم لامع جداً.
وهنا طبعاً نتذكر مقولة الجاحظ المعروفة: " الشعر لا يستطاع أن يُترجم ولا يجوز عليه النقل، ومتى تحوّل تقطّع نظمه وبطل وزنه وضاع موضع التعجب منه ..." وكان الجاحظ قاطعاً في هذا المجال وكرّر مثل هذه الفكرة أكثر من مرة. ومثله كثيرون في هذا العصر، وبعضهم يذهب إلى التأكيد أن "ترجمة الشعر إلى لغة أخرى مستحيلة" مهما اختلفت الترجمات، بل إن اختلاف ترجمات شاعر مثل غوته وعمر الخيام وغيرهما من المشاهير إلى اللغات الأخرى تقدم أكبر دليل على ذلك