الترجمة لسان العالم
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 ترجمةُ الشِّعرِ.. بين الحَرْفيّة والإبداع

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
lissan
Admin
Admin



انثى الجدي عدد المساهمات : 52
تاريخ التسجيل : 11/04/2009
العمر : 44

ترجمةُ الشِّعرِ.. بين الحَرْفيّة والإبداع Empty
مُساهمةموضوع: ترجمةُ الشِّعرِ.. بين الحَرْفيّة والإبداع   ترجمةُ الشِّعرِ.. بين الحَرْفيّة والإبداع Emptyالإثنين 1 فبراير 2010 - 21:00

ترجمةُ الشِّعرِ.. بين الحَرْفيّة والإبداع
الترجمة الحَرفية قد تنقل عبارة "الشعر الجاهلي" إلى "شعر المشردين أو الجهلاء أو الغوغاء
فاطمة ناعوت

الخطيئة النبيلة
لا شك أن ترجمة الشِّعر تنطوي على لون من المغامرة والجرأة. لهذا يشبّهها ويليس بارنستون(1) بخطيئة حوّاء الجسور في تذوّق شجرة المعرفة. أما أنا فأميلُ إلى تشبيهها بخطيئة بروميثيوس النبيلة، حين سرق شعلة النار من السماء، متحديًّا زيوس رب الأرباب الذي أعلن أن النور/المعرفة مُلك للآلهة وحدهم ولا يجوز للبشر التمتع بها. فما كان من بروميثيوس المغامر إلا أن اغتصبَ من الشمس شعاعاً ومنحه لأهل الأرض، ثم نال عقابه الأبدي الأشهر، إلى آخر الأسطورة الإغريقية. هكذا يوسمُ المترجمُ دومًا بأنه الخائن، أو اللص، أو الوسيط، أو السمسار، أو المفتئت على الأصل. بل إن اللصوص فيما بينهم، أقصد المترجمين، نراهم يتهم بعضُهم بعضا إما بعدم الأمانة نتيجة تجنّب النقل الحَرفيّ، أو بالركاكة نتيجة فرط الأمانة الحرفيّة، لأن كلاًّ يحكم من خلال مفهومه الخاص عن الترجمة ومن خلال مدرسته الخاصة التي تبناها خلال رحلته بين الألسن. فالمترجم إذن هو ذاك المجرم الذي تطارده العدالة، ويطارده أيضا المجرمون الآخرون.لكن الشاهدَ أن الترجمة هي فن الكشف. أو العصاة السحرية التي تزيل الحُجُبَ عن المتلقي الأجنبي لتضعَ ثقافاتِ العالم بين أصابعه. والمترجمُ هو ذلك الفنان الذي يؤرقه ولع الكشف والتنقيب عن النفائس، فيبذل الجهدَ والوقتَ من أجل اكتشاف واستكشاف عمل فنان آخر، ليعيدَ خلقه في عباءة جديدة.وأيًّا ما كانت شهرة القطعة الأدبية المنقولة في موطنها الأصل، فإنها ستولد في موطن اللغة المستضيفة لها كطفل يتيم مغترب بلا تاريخٍ أو مرجعيّة راسخة لدى قارئها الجديد. تشبه غربتُها غربةَ دون كيخوته دى لامانتشا الإسبانيّ حين يجد نفسه وقد نقله حصانه فجأة إلى شيكاغو. فتأتي القصيدة في عباءة غموض دراماتيكية سوداء، تحمل تاريخ مجتمع بعيد بتراثه ومحمّلاته الثقافية، ثم يأتي فعلُ الترجمة ليلعب لُعبته فيخلق كائناً فارقاً مميزاً ذا جيناتٍ وراثية جديدة، تحمل ملامح حضارتيْن.فالترجمة تخلقُ طفلا قُدِّر له أن يحيا إلى الأبد بين موطنيْن: الموطن الأم والموطن الجديد، سوى أنه بمجرد أن يعبرَ نهاية الجسر في ثوبه الجديد سوف يسعى للحياة ككائن مستقل. ربما يتذكر، أو يمحو من ذاكرته، مدينته القديمة، لكنه سينجح أن يحيا كمواطن مستقل يحمل جوازيْ سفر.والترجمة بوصفها فنَّ السفر عبر الألسن يلزمها، شأن كل سفرٍ، شيءٌ من التكيّف والمرونة والذكاء كذلك. لأن ترجمة الشعر لا تعني بحال إيجادَ مقابلٍٍ معجميّ لكل كلمة في القصيدة، لكن المترجم إذا كان شاعرًا سوف يعي أن القصيدة الآن تحاول الارتحال من منظومة إلى أخرى، تتباين معها كلَّ التباين في الميزان الصرفي والصوتيّ والنحويّ والدلاليّ والزمانيّ والمجازيّ والبلاغيّ والتراثي والمعرفيّ الخ. ومن ثم لا يمكن بحال أن يزعم مترجمُ الشعر أنه بصدد ترجمة القصيدة انطلاقا من حرصه على إيصال معانيها لسببين:أولا: الشعر في ذاته لغةٌ غير إيصالية أو إبلاغية، أي أن الشاعر لا يرمي إلى توصيل معلوماتٍ أو أفكار إلى القارئ من خلال قصيدته أو إبلاغه بشيء محدد، بل إن القصيدةَ ذاتها لابد ألا تفصحَ عن مضمونها على نحو واضح، فالشاعر يعمد إلى تشفير القول أو إعمال ما نسميه طاقة المسكوت عنه من أجل استقطار روح الشعر، ومن أجل فتح النص على دلالاته. وإلا غدت القصيدة مقالا صحافيا هدفه طرح بعض المعلومات والبيانات.ثانيًا: بناء على ما سبق فالمترجم الذي يزعم أنه يترجم عينَ ما قصد الشاعر هو مبالغٌ وغيرُ صادقٍ بالضرورة. لأن أحدًا لا يمكنه الزعم بمعرفة ما يقصده الشاعر تحديدا في قصيدته، ولو كان مقصدُ الشاعرِ واضحًا مبذولاً في النص ما كان هذا شعرا، أو كان من الشعر الضعيف الذي لا يستحق عناءَ القراءة فضلا عن عناء الترجمة.الترجمة الحَرْفيةويقودنا هذا إلى الكلام عن الترجمة الحرفية التي يلجأ إليها بعض المترجمين. والشاهد أن تلك المدرسة في الترجمة، وإن أُجيزت في ترجمة الدراسات العلمية والطبية والهندسية والفلسفية والصحافية الخ...، فإنها تعدُّ جريمةً كبرى حال ترجمة الشعر. فإن كانت الترجمةُ خيانةً لأنها تُفقد القصيدة جزءًا من طاقتها الشعرية، فإن الترجمة الحرفية هي إيغالٌ في الخيانة لأنها تعمل على تدمير النص الأصل وتفريغه من كل طاقة شعرية. تلك الطاقة التي يجهد المترجم الحصيف أن يستبقى منها أكبر قدر ممكن. وفي حال كهذه يتشابه الأمر مع برامج الكمبيوتر المُترجِمة التي يتوسّلُها البعض هذه الأيام للأسف. وهي أحد أسباب محنة الترجمة الحالية التي أنتجت لنا تلالا من الترجمات الركيكة التي قتلت الكثير من الكتب والروايات والأشعار المهمة. وأذكر هنا عبارة أحبها للبروفيسور بارنستون:"A Translation is an X-ray, not a Xerox. " بما يعني أن الترجمة تعمل على اختراق عمق النص بالأشعة السابرة الغور، وليست مجرد تصوير فوتوغرافيّ بماكينة التصوير الضوئي.أذكر أن أحد المترجمين الحرفيين قد تساجل معي يوما لأنني ترجمت الفعل المضارع ماضيًا أو العكس، وتغافل عن أن اللغة العربية تضم ثلاثة أزمنة وحسب، في حين تضم الإنجليزية أكثر من ثلاثة أضعاف هذا الرقم. هذا أولا، وثانيا تغافل عن أن اللغة الأدبية هي لغة مجازية في الأساس، فحين يقول الله تعالى في القرآن الكريم: " أتت الساعة"، فهو يتكلم عن المستقبل، وحين يقول: "سنريهم من آياتنا" فهو يتكلم عن الماضي، وهكذا.الانتقال عبر المنظومات اللغوية انتقالُ قصيدةٍ من لسانٍ إلى لسان يستوجبُ تحولاً في الصوتيات والميزان العروضي والصرفي بل وفي دلالات المجازات والتشكيل الاستعاري من مجتمعٍ إلى آخر ومن زمن إلى زمن ومن بيئة إلى أخرى. فالتشكيل والصور والمجازات التي تناسب مجتمعاً صحراوياً قد لا يفهمها أهل المدن أو من يعيشون بين الثلوج. ذاك أن الأدب هو ابن أصيل للبيئة والزمن. ولأنه ليس ثمة مرادف دقيق لكلمة بين لغة وأخرى بل وعلى مستوى اللغة الواحدة لن تجد كلمتين تحملان المعنى نفسه والدلالة ذاتها، فإن التطابق الكامل مع النص ضرب من المستحيل. ومن أخطر وأصعب ما تلقاه قصيدة ما في رحلتِها عبر الألسن هو تباين المحمّلات التراثية من مجتمعٍ إلى آخر، فالمجتمعات المسلمة تحمل مكوناتٍ وعقائد تتباين عن ساكني التبت مثلا. وهنا تحضرني تجربة مررت بها حديثا حين كنت أقوم بمراجعة كتابٍ مترجم من العربية إلى الإنجليزية وهو كتاب "الرهان على المعرفة". وجدت أحد المترجمين قام بترجمة عبارة "الشعر الجاهلي" بعبارة "Rogue Poetry، بما يعني "شعر المشردين أو الأوغاد أو الجهلاء" !! ونلاحظ هنا أن هذه الترجمة الحرفية قد حملّت المعنى حكمًا قيميًا يسم طبيعة الشعر. هذا مثال بسيط لما يمكن أن تفعله الترجمة الحرفية الخاطئة. فالعصر الجاهلي سُميّ بهذا الاسم لاعتبارات دينية إسلامية محض. باعتبار ذاك العصر مظلمًا خلوًا من نور الإسلام، على أن القارئ الأجنبي في حِلٍّ من هذا المُحمّل الديني الخاص، ومن ثم وجب علينا نقل مفهوم عبارة "الشعر الجاهلي" بالدلالة الزمانية أو الوصفية أي "شعر ما قبل الإسلامPre-Islamic poetry " أو "شعر الوثنيينPagans poetry". بل إني أرفض هذا المسمى: "الشعر الجاهليّ" حتى على المستوى العربيّ لأنه يسمُ فرائد الشعر العربيّ القديم بحكم قيمي ينتمي لتقسيم ديني بعيدا عن التقسيم الجمالي للشعر. وأنتهز هذه الفرصة لأطالب بتغيير هذا المصطلح ومحوه تماما من ذاكرتنا العربية. الدلالةُ والطاقة وليس المعنىوبالرغم من تلك الصعوبات التي طرحناها آنفًا وغيرها من صعوبات تواجه كل مترجم، تظل ترجمةُ الشعر ممكنةً إذا تصورنا أن الترجمة لا تنطوي على التطابق التابع. فباستخدام المرادفات الدلالية عوضًا عن التطابق الميكانيكي مع النص (وإن ظل هذا التطابق حلم كل مترجم يتحرى الدقة والصدق، ومن بينهم كاتبة هذه السطور، بشرط عدم قتل النص الأصل) يمكن للعمل أن يتخلّق أو لنقل بشيء من المجاز، يمكن أن تعطينا القصيدةُ نفسَها. يقول بارنستون:"المحاكاة التامة مستحيلة، لكن شيئا من التزييف الفنيّ للأصل يصبح وسيلة ضروريّة للمترجم الواعي، ولا يندرج هذا في باب الخيانة أو الجريمة ما بقي النصُّ الأدبيُّ حميمَ الالتصاق بالأصل المنقول عنه بحيث تستدعي الدلالاتُ ذاتَها فوراً بمجرد مرور عين المتلقي عليها." ويرى بعضُ المتشددين أن الترجمة تشبه إنتاجاً بالجملة mass production لتمثال أثريّ بالغ التفرّد والأهمية. فقد تحمل القطعُ المنسوخة جمالاً وبريقا، غير إنها تظلُّ فقيرةً من حيث الأصالة ومن حيث القيمة الفنيّة والتاريخية، وتبقى محض مرآة مصقولة تعكس بعضا من المجد القديم، بالكاد تخفي عريها وعارها وانعدام أصالتها عن طريق عباءة فاضحة تحمل الحرف (ت) من ترجمة. وقد نتفق مع هؤلاء المحافظين في وجوب قراءة النصِّ الأدبيّ في لغته الأم بدلا من قراءته مترجما، وقد نجاريهم في أن الترجمة تنطوي على شيء من الخطيئة، لكنها الخطيئةُ التي لا بديل عنها، هي خطيئة برومثيوس النبيلة كما أسلفنا، فإن لم يستطع سرقة الشمس كاملةً، فقد نجح في استلال شعاع ضوء منها. فليس ثمة بشريٌّ يمكنه الإلمام بكل اللغات التي تحمل تراثاً أدبياً جديراً بالإبحار فيه فضلاً عن إمكانية القراءة الأدبية بكلاسيكياتها وحداثياتها وبلاغاتها ولهجاتها. ولأن الاعتداءَ على حرم الفن ومباغتة حصونه متعةٌ، لا يخبرها إلا من أقدم على ترجمة الأدب، فلا بأس إذن من شيء من المكر وبعض الاجتراءات الشريرة. ولكنها اللعبةُ الخطرة التي يجب أن تنطوي على مهارة فائقة ووعي بالأدوات حتى تتم الجريمة الكاملة بغير خدش لجوهر المادة الأصل أو تشويه لفكر المبدع الأصل. تلك هي المعادلة الصعبة التي يجب أن يحلَّ طرفيها المترجم الحصيف.فالترجمة، سيما الأدبية– وألف سيما ترجمة الشعر– لونٌ من الإبداع والفكر وليست عملا إجرائيًّا آليًّا (سهلاً). فالقصيدة المسافرة، عبر لسانين مختلفي الحضارة والمعجم والدلالات والثقافة والحس الشعبي الخبيئ في متون اللغة، تقطع رحلتها باحثة عن أم جديدة أجنبية عنها، تحمل تراثَ أدب مغاير، لابد لها، لكي تحيا حياةً صحيّة، أن يتم امتصاصها بالكامل في نسيج اللغة الجديدة وأن ينصهر ويذوب جوهرُها في متن اللغة المتبنية من أجل أن تنتعش في بيئتها الجديدة. ومن شأن الترجمة فتح معجم اللغة المتبنيّة وإثراء جذورها اللغوية وزيادة مرونة حدودها القسرية في الأدب، ويتم ذلك عن طريق تسرّب قصائد من لغات أخرى، سيما الصعب والمدهش منها، إلى اللغة المترجم إليها فينفتح معجمها ويتسّع. ويقول بارنستون عن الترجمة "إنها رحلةٌ بحرية على متن سفينة عابرة للمحيطات. وكل سفينة مقدر لها الوصول إلى المرفأ عبر أحد طريقين: إما الولاء للقيمة، وإما الولاء للصنعة. والمرفأ ذاته سوف يقترح مع اسمه حالة البحر الذي عبره قطعتِ السفينةُ رحلتها. وهكذا فالمرفأ الذي سترسو عليه السفينة بشحنة القصائد قد يكون اسمه مرفأ "القديس المخلص"، أو مرفأ "التناغم الجديد"، أو مرفأ "حبّات الفراولة البريّة". ذاك أن المرفأ لابد أن يكون له اسمٌ، اسم حقيقي يحمل طبيعة الأسلوب الذي تمت عبره الترجمة من إعادة صياغة أو تركيب مجازات أو استعارات أو حتى أسلوب التقليد المحض الخ". غير أن إجازةَ الحذف أو الإضافة للقصيدة، أو الانحراف المحسوب عن مفردة بعينها أو حتى (نحت) كلمة جديدة، لا تنجح إلا في ظل وعي كامل وفق منهج شعري حميم. وهي الترجمة التي تحفظ جماليات القصيدة وفي ذات الوقت تبقى شديدة الارتباط بالأصل، وهو ما عناه الصينيون حين تكلموا عن إطلاق أفق الخيال على مداه وفي ذات الوقت تفعيل أقسى درجات النقد الذاتي، وأطلقوا على ذلك المنهج اسم:"الرقص داخل الأغلال". السفر عبر الألسنالقصيدة المترجمة تسكن المنفى ولا سبيل لرجوعها، ولها شرعية الحياة والتحقق في المناخ الأدبي الجديد. لكن هل تُقرأ كقطعة أدبية متبناة من قِبل اللغة الحاضنة، أم كابنة شرعية لها؟ في هذا اختلف المترجمون:يقول "فراى لويس دى ليون": "الشعر المترجم يجب ألا يبدو أجنبياً كلاجئ غير معترف به، بل كمواطن أصيل وُلد ولادةً طبيعية لّلغة المتبنية". وهذا التوجّه يخالف الأديب المغربيّ د. محمد برّادة الذي يقول: "إن ثراءَ الترجمة يتحقق أساساً من خلال الحرص على نقل الاختلافات بين اللغتين. فأنا لا أميل إلى الترجمة التي تعيد صياغة النص المترجم في أسلوب وتراكيب عربية مألوفة، أي أن الاختلاف القائم بين لغة وأخرى على مستوى التعبير يجب أن يكون حاضراً وملموساً لدى قارئ النص المترجم." وأجدُني أقف على منطقة وسط بين الرأيين، فلا أنا أؤيد الامتصاصَ الكامل للقصيدة وذوبانَ اللغة الأصلية وتحلّلها داخل اللغة المتبنيّة، ولا أنا كذلك مع تهشّم اللغة المنقول إليها وتصدّع أجروميتها اللغوية على عتبة الترجمة. على أنني أحب أن تبرز بعض الاختلافات، بين اللغتين، عمدا من حين إلى آخر حتى تسبب ما يشبه الصدمة المحببة للقارئ. إذ يجب على المترجم، شريطة حفاظه التام على تراكيب وصياغات لغته المنقول إليها، أن يعمل على أن يظل النصُّ ترجمةً عن أصل أجنبي، وليس أصلا. فالتبني الكامل للقصيدة داخل اللغة الجديدة لا يعني انصهار روحها المسافرة معها من بلادها. وعلى القارئ أن يتذكّر بين لحظة وأخرى، أثناء القراءة، أن القصيدة التي بين يديه الآن ليست ابنةً أصيلةً للغة التي يقرأها بها، بل ترجمةٌ جميلة نسجها مترجم/مبدعٌ على نولٍ جديد. هل يشبه هذا الأمر نظرية بريخت في المسرح التي تقول إن أسوأ مسرحية هي تلك التي ينسلخ الجمهور فيها عن واقعهم فيتفاعلوا تماما مع الممثلين والحدث، وينسون أن ما يشاهدونه هو محض تمثيل؟ أظنني أقصد شيئا كهذا. فمن الجميل أن يحتفظَ النصُّ بنكهته المحليّة، ومن الجميل المحافظة على كل الإشارات التي تشي بحضارة وثقافات البلد الأم، فهذا من شأنه إثراء العمل وزيادة متعة التلقي وإذابة العوائق الزمكانية بين الكاتب والقارئ بل السفر– بالعقل– إلى بقع جديدة فوق الكوكب. تماماً كمتعة احتساء فنجانٍ من القهوة التركية الساخنة داخل كهف ثلجي بالإسكيمو. فالصدمة المعجمية التي تنشأ بسبب اختلاف الألسن والحضارات من شأنها إنعاش ركود اللغة وإعمال الحس التشكيلي لدى القارئ.طاقة الكلمةالترجمة من شأنها مد جسور من النور بين الشعراء، وكأن نفحةً من التوحّد الصوفيّ القائم على عشق الفن والشعر تجمع فيما بينهم وتربط بين أفكارهم بخيط من حرير. ومثلما في الصوفية، نجد المعضلة هي: كيف الكلام عن أشياء تفوق الوصف؟ في الشعر فضلا عن الترجمة. وأعني بهذه الأشياء طاقة الدلالة الخبيئة وراء الكلمات، أو المسكوت عنه داخل النص. كيف تجد كلمات تعبر بها عما لم يُنطق به؟ وهو ما يمكن أن نطلق عليه "طاقة الكلمة" بتعبير العقاد. يمكن للقارئ المدرّب على قراءة الشعر أن يتعامل معها في قصيدة مكتوبة بلغته الأم، لكن ماذا عن القصيدة المترجمة؟ يقول لنا بارنستون إن الصورة الشعرية إذا لم تتكون على النحو السليم، يمكن للمترجم أن يُنشئ معادلا موضوعيا لها لتعويض تلك الطاقة المستلَبة نتيجة الترجمة. ويشبّه بارنستون هذا الأمر بالصورة أو الرؤية الفنتازية في العقل التي تحار الكلماتُ في وصفها، هنا تكمن صَنعةُ المترجمِ ودُربته وذائقته وقدرته الشعرية ومكوّنه المعرفيّ والثقافي مزدوج اللغة، في البحث عن معايرات دلالية تستنطق أبجديات اللغة لحل المسألة.المترجمويقول "ويليس بارنستون" في كتابه أيضًا: "إن إمكانية التحدث بطلاقة في لغة أجنبية لا يخلق مترجماً أدبياً إلا بمقدار ما تخلق القدرة على الإبحار العميق في لج اللغة الأم أديبا أو شاعرًا. وإلا كان كلُّ المتحدثين بالإنجليزية هم "ملتون". ويضيف بارنستون:"إن القصائد التي أُعدّت بواسطة محنط للطيور مستخدماً فيها كلمات "روبرت لويل" لن تزيد على كونها طيوراً محنطة محشوّة قشًّا. ولذلك فإن مترجماً واعيًّا يمتلك حسًّا أدبيا وذا أمانة مع قدرة على الابتكار والتخيل يفوق عملُه عملَ أكاديميٍّ مؤهل لكنه غير أديب. وتأكد هذا دوما منذ طبعة الإنجيل الأولى لـ "كينج جيمس" وحتى الطبعات المعاصرة للشعراء الروس". فالترجمة الأدبية إذن، سيما الشعرية، عمل إبداعي في المقام الأول لا حرفة مكتسبة بالتمرس والدربة فقط. ولهذا يؤكد بارنستون على عدم إمكانية وجود تلك الصداقة المتخيّلة بين الشعراء في عملية الترجمة بدون تلك القاعدة الفنية القوية.في فن الإبداع الأدبي ثمة جواز مرور لمحاكاة التراث والاقتباس والنقل والتناص والتحوير والتحريف. أما المترجمون فهم لصوص مفضوحون على خلاف الأدباء العاديين. فالمترجمون يمكن الإمساك بهم والقصاص منهم، لأن المترجم إذا مارس شيئا من اللصوصية على النص الأصلي سواءً بالإضافة أو بالحذف أو بالتحوير ولو من أجل جلاء النص وسد الفجوة الناجمة عن تباين اللغتين، فإن هذا يعلن صراحة عن سرقته. وهنا يمكن للمترجم أن يفوّت على بوليس الترجمة فرصة القبض عليه بأن يعطي النص هامشًا مضافاً إليه عبارة (إعادة صياغة، أو محاكاة، أو ترجمة بتصرف). وهكذا يحيا مترجم الشعر دائمًا كلص طيّب معترف بجريمته يحمل خطيئته في أبدٍ يشبه أبدَ سيزيف في حمل صخرته.لحظة استحضار الشعريكمن الفردوس في لحظة الترجمة ذاتها، فالشاعر في لحظات الحدس الحميمة، يحاول استحضار كل مهاراته وصفاء ذهنه في محاولة استدعاء لحظة الانصهار الإبداعي التي أنتجت القصيدة، فيبدع ترجمةً موازية، إبداعيًّا، للقصيدة الأصل. ومن هنا كان التأكيد على أن الشعر لا يترجمه إلا شاعر. والشاعر هنا أي المتمرس على تعاطي الشعر وليس بالضرورة كاتب القصائد، فربّ شاعر لم يكتب شعرا والعكس. لأنه الوحيد الذي سيكون بوسعه اختزال وتقليص الطاقة الشعرية المهدرَة من القصيدة بسبب سفرها بين منظومتيْن لغويتين متباينتين. فكم قرأنا قصائد عظيمة في لغتها، حولّتها الترجمةُ إلى محض مقالاتٍ صحفية رديئة. وكم قتلت الترجمة قِطعًا أدبيةً رائعة حين عمد المترجمون إلى ترجمة المفردة إلى مفردة، متناسين أن للكلمة طاقةً و(ما وراء) وإرثًا ومحمّلات ثقافية وشعبية (محليّة أو عالمية)،ونطقية وسمعية في لغتها الأم، وليس من الضروري أن تحمل الكلمة المرادفة لها في اللغة الجديدة ذات المحملات. وتظهر هنا براعة المترجم في البحث عن تلك المحملات قبل البحث عن المفردة المقابلة. وكمثال بسيط على هذا أذكر مفردة "القمر". كلُّ عربيٍّ يعرف مدلولات هذه الكلمة في الموروث العربي القديم وفي العقل العربي القديم والحديث، فنجد الكلمة تحمل دلالات (الضياء –الجمال – العذوبة –السمو – الحُلم البعيد – مراسل العاشقين الخ)، وطبعا كلها دلالات شديدة الإيجابية، أي باختصار القمر رمز للجمال، أما ذات المفردة فتحمل معنىً سلبيا في الثقافة الألمانية مثلا، فأنت تهجو الآخر إذا شبهته بالقمر! لأن القمر يحمل هناك معنى الكذب والنفاق والظهور على غير ما يحمل الجوهر، ذاك أن القمرَ يبدو مضيئا بينما هو كوكب مظلم تابع للأرض، وما يعكسه لنا ليس سوى ضوء الشمس الساقط على سطحه. وهكذا نرى أن للمترجم في حال كهذه أن يعمد إلى تبني الدلالة والطاقة المخبأة داخل الكلمة، أو ليترجم المفردة بمقابلها الحرفيّ على أن يلتزم بإضافة حواشٍ سفلية للتوضيح. وإن كنت أرى أن الشعر يفقد كثيرا من صفائه إذا ما اتكأ على هوامش.الأصالة والاستقلالوإذا كانت الترجمة تتوق، شأن الكتابة عموما، إلى الاستقلال، فإننا حين نظن أننا حصّلنا شيئًا من هذا الاستقلال وجدنا الحلم خادعا. فالنصوص الأصلية كذلك ليست تامة الاستقلال ولا حتى تامة الأصالة. يقول ويليس بارنستون في هذا:" حين يُخلق النصُّ الأصلي من جديد على نحوٍ رفيع خلال صوت المترجم، هل تعدُّ هنا الترجمةُ جنسًا مختلفًا عن الأدب؟ هذا أمرٌ صعب تحديده. فإذا ما اتفقنا على اختلافه، لا يصحُّ أن يصبح جنسًا أحطَّ أو ذا مرتبةٍ أدنى من الأصل. يُنظر إليه هكذا فقط من قِبَل هؤلاء الذين يتبنون الاتفاقيات الشكلية ضيقّة النظر، التي كرّست التقسيمَ الطبقيّ الإقطاعيّ بين السيد (الأصل)، والتابع (الترجمة)." ويطيب لي هنا أن أذكر قولة أكتافيو باث:"كلُّ نصٍّ هو نصٌّ فريد، وفي الوقت نفسه هو ترجمةٌ لنصٍّ آخر". وربما هذا ما ذهب إليه الجاحظ بقوله: إنما الأفكار ملقاةٌ على قارعة الطريق. فالعقل البشري متشابهٌ إلى حدٍّ بعيد في آلياته ومنتجه الذهني، ومن هنا يصبح الأدب كله ترجمة للفكر الإنساني، وبالتالي تغدو كل ترجمة نصًّا فريدَ الصوغ وبالتالي يحمل أصالته الخاصة.تحوّر اللغةتاريخياً، ليست للكلمات المنقولة بداية، فمن العبث أن نبحث عن مؤلف أصلي أو لغة أم أو لفظة أولى نُطقت بها. الكلمة هي ترجمة لكلمات سابقة. ولذا، رائعةً كانت أو رديئة، جديدة أم قديمة، فالترجمةُ هي عمل آخر وخطابٌ جديد. حتى القراءات الحديثة للنصوص المصدر هي فعل إنشاء وترجمة لسلسلة لا نهائية من الترجمات القديمة الممتدة منذ بداية الإدراك الأول للعلامات والأصوات الصادرة عن الكلمات. اللغةَ تحوّرُ نفسَها وتعيدُ خلقَ ذاتِها بشكلٍ مستمر. ببطء حينًا، كما تراكم الغبار فوق سطح مصقول، وبسرعة في حين آخر، كما فتوحات البلاد. ذلك أنها لا يمكن أن تظل كما هي عبر السلسلة اللانهائية من التحولات والترجمات الذاتية. ففي اللغة العربية كمثال، فقدت المجازات والكنايات القديمة دلالاتِها ففقدت شرعيتَها بل ومعناها. وثمة مجازات أخرى خرجت من نطاق المجاز والبلاغة بسبب تكرار استخدامها فصارت جزءًا من الحديث اليومي. فلو قلت لأحد "قطعت الطريق في ساعتين" لن يندهش منك باعتبارك تستخدم استعارة تصريحية بلاغية في حديث يوميّ، فالطريق لا يُقطع بل يُمشى. كذلك لو قلنا هذا الرجل "جبان الكلب"، وهي كناية قديمة تدلُّ على الكرم، (حيث كلب الرجل الكريم معتادٌ على وجود الضيوف دوما، فما عاد يطلق نباحه على الغرباء)، لو قلت أو كتبت شيئا كهذا لن يتواصل معك القارئ (العربي) الراهن حيث إن مثل هذه الكناية قد اِستُهلكَت ولم يعد من دلالة لها الآن، فضلاً عن صعوبة ترجمتها الترجمة الدقيقة التي تنقل لك تراث أمةٍ كاملة وعاداتِ أهلها. قد يكون حال اللا استقرار هذا، وذاك التغيير الأبدي للغة مقلقًا للأديب المحافظ، ولكنها حتميةٌ تاريخيةٌ لا مفر منها. بل هي عمليةٌ من شأنها إنعاش اللغة وتجديد دمائها. ومن ثم تحتم التعايش والتصالح مع هذا التحوّر اللغوي. لأن حلم القبض على الكلمات وتجميدها يشبه أسطورة الموت والتحنيط عند المصري القديم، وعمليًا يبدو هذا الحلم عبثيةً رديئة تغفل حراك الحياة والمجتمعات وتغفل أن اللغة في مستواها الأول هي ميديا إيصال تتأثر تأثرًا مرآويًا مباشرًا بالمجتمع. ولذا حريٌّ بنا أن نتقبل هذا التحول كلعبة تؤكد أننا مازلنا نحيا، لعبةٌ تدعو للبهجة لا التحسّر.فالقارئ لعمل أدبي مترجَم يجب أن ينتبه أنه لا يقرأ الأصل عينَه بل يراه عبر حواجزَ أفقيةٍ (جغرافية) وحواجز رأسية (زمنية). ولكن إلى أي درجة من الدقة ومطابقة الأصل صيغ هذا العمل؟ هذا سؤال على جانب من التعقيد كبير حيث الفيصل غائب. ولكنني كقارئة لا أتوقف طويلا عند هذا السؤال حين أجد تباينات في طرح العمل نفسه عبر ترجمات عديدة له. بل إن هذا الأمر قد يبهجني قليلاً ويثير مكامن المكر في داخلي فأوسّع مساحة الاجتهاد لأطرح– ذهنياً- ترجمةً مغايرةً قد يكون المبدعُ بريئاً منها! والمثال التالي يبرهن على أن اللغة فعلُ تحوّل أفقي ورأسي.هنا أحد أكثر المشاهد شهرة في الأدب الكلاسيكي القديم وهو اللقاء الشهير الذي تم بين هكتور وزوجته في الكتاب السادس من إلياذة هوميروس (أوسع الأعمال ترجمة في العالم، تُرجمت للإنجليزية وحدا أكثر من 15 مرة). هيكتور، القائد الأول والعصب الرئيس للجيش الطروادي، تناشده زوجته أندروماخي أن ينسحب بقواته إلى داخل أسوار المدينة ويستأنف عمليات الدفاع عن طروادة وحمايتها من هناك، لكيلا تخضع حياته للخطر المباشر. في نص هوميروس الأصلي نجد جملة المفتتح التي نطقت بها "أندروماخي" باليونانية القديمة تتكون من كلمات ست ترجمت بأشكال متباينة إلى الإنجليزية بأقلام مترجمين مهمين وذوي شهرة، وعلى مدى حقبٍ زمنية مختلفة على طرائق شتى، بعضها شعرٌ وبعضها نثر. أورد هنا الترجمات الإنجليزية وترجمتي العربية لكلٍّ منها(حرفية قدر الإمكان) من أجل أن أدلل على (طبيعة) فعل الترجمة وتباينها أفقياً ورأسياً، تبعًا للزمن وفردية المترجم. وقد وقعت على هذه الترجمات الإنجليزية في كتاب" قطع الأدب الفريدة العالمية"."World Masterpieces – Norton Anthology-Sixth edition" 1- George Chapmen 1598 (O noblest in desire,Thy mind, inflamed with others' good, will set thy self on fire.)"أيا الأنبلُ في رغبته، عقلُك المتأجج بصالح الآخرين، سوف يلقى بك في الجحيم". 2- John Dryden 1693 (Thy dauntless heart (which I foresee too late), too daring man, will urge thee to thy fate.)"قلبُك الجسور (الذي تنبأتُ به بعد فوات الأوان)، أيها الرجل شديد الجرأة، سوف يدفع بكَ إلى حتفك".3- Alexander Pope 1715 (Too daring Prince!.. For sure such courage length of life denies, and thou must fall, thy virtue's sacrifice)."أيها الأمير الجسور!... حتماً، مثل هذه البسالة تتعارض مع طول العمر، ولابد أن تسقط، قربانًا لفضيلتك". 4- William Cowper 1791 (Thy own great courage will Cut Short thy days, My noble Hector).شجاعتُك العظيمة سوف تختصرُ أيامَك، أيا نبيلي هيكتور".5- Lang, Leaf and Mayers, 1883 (Dear my lord, this thy hardihood will undo thee…)"مولاي العزيز، بسالتُكَ هذه سوف تحطّمُك....". 6- A. T. Murray 1924 (Ah, my husband, this prowess of thine will be thy doom)."آهٍٍ، يا زوجي، قوة بأسِكَ هذه، سوف تكون هلاكَك". 7- E. V. Rieu 1950 ("Hector", she said, "You are possessed. This bravery of yours will be your end)."هيكتور" قالت، "أنت مأسورٌ. بطولتُكَ هذه ستكون نهايتك". 8- I. A. Richards 1950 ("Strange man", she said, your courage will be your destruction)."أيا رجلاً غريبَ الأطوار"، قالت، " شجاعتُك ستكون دمارَك". 9- Richmond Lattimore 1951 (Dearest, Your own great strength will be your death)."أيها الأعز،صلابتُكَ العظمى سوف تكون منيتَك". 10- Robert Filzgerald 1979 (O my wild one,your bravery will be your own undoing!)."يا شديد الجموح،بسالتُكَ سوف تكون خرابُك الشخصيّ !"11- Robert Fagles 1990 (Reckless one, Your own fiery courage will destroy you !)"أيها الطائش،عزمُكَ المشتعل سوف يدمرك! " كل ما سبق من ترجمات إنجليزية متباينة هي من أصل إغريقي واحد هو جملة قوامُها كلمات ست. من تلك التباينات اللافتة في طرائق النقل من اليونانية إلى الإنجليزية، تتأكد لنا حقائقُ ثابتة عن طبيعة الترجمة الأدبية:لو تأملنا الكلمات المظللة في الترجمات السابقة، نجدها جميعا تعبر عن كلمة (واحدة) باليونانية، وهي التي تصف بها "أندروماخي" بطولة زوجها الفائقة، أو بسالته غير محسوبة العواقب، تلك التي تجمع بين الطيش وفرط الجسارة، ولأنه لا وجود لمفردة في الإنجليزية تحمل تلك الدلالات مجتمعة في كلمة (واحدة)، اضطر الشعراء للتدليل عليها بتعبيرات وصفية تزيد عن الكلمة الوحيدة.أما في اللقب الذي نادت به الزوجةُ زوجَها، فسنجد تباينات أوسع. لأن اختلاف المناخ الحضاريّ والاجتماعيّ بين إنجلترا وبين تلك الحضارات القديمة، أعاق الشعراء المترجمين عن تحديد الطريقة التي كانت تدعو بها الزوجةُ الطروادية زوجَها في عصر هوميروس، أو في عصر حرب طروادة، سيما إذا كان هذا الزوجُ قائدًا كبيرًا. وهل يختلف خطابُ المرأةِ لزوجها في الخطاب اليومي الأُسري عنه في الخطاب الملحميّ؟ وأيّ الخطابين قصده هوميروس حين كتب؟ من أجل هذا تباينت الألقاب وكلمات النداء تِبعا لتصوّر كل شاعر. والجليّ في المعاجم اليونانية-الإنجليزية أن الكلمة تحمل قدرًا من التبجيل السماوي وفي ذات الوقت تحمل معنى يشي بالجسارة والطيش أو الرعونة، وهنا اختلف الشعراء فيما بينهم، حتى أن أحدهم اكتفى بكلمة (يا زوجي)، وبعضهم استخدم كلمة (أيها الطائش)، في حين أن البعض الآخر ترجم ذات الكلمة إلى (يا مولاي)، والبعض لم يكتب غير (هكتور). والآن. هل يمكننا أن نسم إحدى هذه الترجمات بالخطأ والأخرى بالصواب؟ ومن يفصل في الأمر؟ من يحدد يقينا ماذا قصد هوميروس بكلمته الوحيدة؟اخترتُ المثال السابق لأنه يحمل معنى التباين الأفقي (الجغرافي) بين منظومات اللغات واللهجات المختلفة من ناحية، وأيضا التباينات الرأسية (الزمني)، حيث تراوحت الترجمات بين بدايات القرن 16 وحتى القرن 20، التي عبرها تغيرتْ طرائقُ الخطاب وتحوّرتِ اللغةُ ذاتُها على خط الزمن. يقول بارنستون في ذات الموضوع:"بما أننا اتفقنا على التحوّل الدائم والحتميّ للكلمات، فهل بوسعنا أن نطالب المترجمين الذين يشتغلون بالأدب هذه الآونة باستحضار معجزةٍ كي يهبونا قصيدة حقيقية؟" ويجيب على سؤاله قائلا: "نعم. المترجمُ الشاعر يجب أن يكون على أقل تقدير منافسًا للكاتب الأصلي للقصيدة، من أجل أن يبدع".إن قصيدةً مترجمةً على نحوٍ تعس لابد أن تشير بإصبع اتهام إلى مترجم غير متمرس على تعاطي الشعر، غير مدرك لمفهوم الطاقة المكتنزة داخله. كيف يكتبُ الشعرَ من ليس بشاعر؟ فكيف يترجمه أيضًا؟ من أين يستجلب طاقةَ الشعرية من معين غير شعريّ؟ ويعيدنا هذا السؤال من جديد إلى قصة بورخيس (هل أحب جدا هذه القصة؟)، الساخر من نفسه والساخر من ابن رشد الفيلسوف الذي حيرته مفردتان من المسرح اليونانيّ. بحث عن معناهما في معجم الفلسفة والفقه فلم يجدهما؟ كيف يجدهما؟ وكيف يجد المترجم طاقة الشعر إن لم يكن معينُه شعريًّا؟ ويبلوّر بورخيس فكرة الإخفاق في نهاية قصته بأنه من أجل بناء قصة، يجب بناء شخوص، ومن أجل بناء شخوص، يجب بناء القصة، وهلم جرا. ولذلك حين فقد بورخيس إيمانه بابن رشد، اختفى الأخير ببساطة.وبنفس القياس: كيف سيستحضر المترجم– إن لم يكن شاعرًا- لحظة الشعر وكيف سيستدعي روح القصيد من مخيال غير شعري؟ ولذا فالمترجم غير مطالب باستحضار معجزة كونية لترجمة عمل قديم يخضع لاغتراب أفقي ورأسيّ، لكنه على الأقل يتصارع مع المبدع الأصلي وينافسه. فحين نتأمل قصيدة مكتوبة بلغةٍ غير معروفة لنا، سنقف أمامها عاجزين نشخَص في الحروف والفراغات الملغزة إلى أن نقع على ترجمة جميلة تُحيل الفوضى إلى تشكيل والإبهام إلى نور. فالترجمة إحياء للعقل الإنساني. وعبر سلسلة الترجمات وإعادة الترجمات منذ الخلق الأصلي الأول ومنذ ترجم الله كلمته في صورة إنسان وحتى ما نقرؤه الآن في أوراقنا، نحن نعتمد على قوى إبداع المبدع والمترجم لتحويل الأشكال العجماء إلى معرفة.في المطلق، كما تقول الفلسفات القديمة، لا وجود للكتلة الجامدة أو الثبات، لكن شكلين من الحركة التماوجية يتناوبان: الظلام والنور. وفي حركة تراجعية خفيّة، تنبثقُ شعلة خافتة من منطقة غامضة، كما يتشكل الضباب في الفراغ ويندفع إلى الأمام في هيئة كتلة نور. ذاك النور الذي من خلاله أبصر آدم آخر نقطة في الكون. وكذا فالترجمة تشبه تلك الحركة من الظلمة إلى النور. الولاء للكلمة ضرورة، والولاء للحرف يسبق الولاء للكلمة. الولاء الذي من شأنه خلْق صيغةٍ أرقى للإيمان بالمُثل الصوفية التي قدست الكلمة. كان الأقدمون يرسمون شجرة الحياة أوراقُها على هيئة حروف وكذلك الإنسان وقد غطى جسده بحروف عشرة. لأن الله– كما في الميثولوجي القديم- قد خلق الكلمة قبل أن يخلق الأرض. والتوراة وقد كُتبت بحروف النار السوداء على صفحة النار البيضاء وبعد أن انتظم الكتاب استقرَّ فوق ركبتيّ الله. ومن ثم فقد خلق الله الاثنين وعشرين حرفا، التي تكوّن اللغة العبرية، تمهيدًا لخلق العالم. تلك الحروف التي سقطت من تاج الله ونقشت فوق قلم مصنوع من لهب النار.المترجم خزّاف مبدع يصوغ روح الطين القديم ويعيد خلقه في منتجٍ فني. وتكمن البراعة في اللعب والاشتغال والمعالجة للمادة الخام. فيصب المكونات والمفردات في قالب يناسب خلقه الجديد في نسيج اللغة الجديدة وروحها، لينتجَ منتجًا يحمل روحًا فنيّة يمكنها البقاء. وفي هذا يقول بارنستون:"كلمة الله تكمن في الجمال المطلق، والأولوية للقيمة الجمالية في القصيدة الأصلية، فإذا ما أنتج المترجم لنا قصيدة ضعيفة من أصل جميل، فقد انتهك إيماننا بالكلمة والحرف." وفي النهاية وكما قال أوكتافيو باث "الشعراء الجيدون ليسوا بالضرورة مترجمي شعر جيدين". فالشاعر المترجم يجب أن يكون مبدعاً في ترجمته لا قاموساً، ففي عملية صياغة الشعر من المجهول إلى شيء مدرك يتأكد أن المترجم هو في الأصل شاعر، حتى وإن لم يبدع خارج الترجمة شعراً والعكس ليس دائماً صحيحاً. المراجعThe Poetics of Translation: History, Theory, Practice, Yale University Press 1993 - - Willis BarnstoneThe World Masterpieces-Norton Edition- شاعرة ومترجمة مصرية www.f-naoot.com(1) - ويليس بارنستون Willis Barnstone: شاعر ومترجم شعر، يعمل أستاذا للأدب المقارن في جامعة إنديانا، وقام بالتدريس في عدة جامعات في اليونان والأرجنتين. له أكثر من أربعين كتابا من الشعر المترجم إلى الإنجليزية، إضافة إلى مجموعاته الشعرية والفلسفية ومؤلفاته الكثيرة عن ترجمة الشعر. عدا كتابه العمدة " العهد الجديد The New Covenant وهو ترجمة أدبية رفيعة للإنجيل. الاقتباسات من كتابه: The Poetics of Translation: History Theory, Practice "شعرية الترجمة: التاريخ، النظرية، والتطبيق" الصادر عن Yale University Press عام 1993. وأعيد طباعته عام 1995
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
ترجمةُ الشِّعرِ.. بين الحَرْفيّة والإبداع
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» يوم دراسي الذاكرة الشعبية الجزائرية والإبداع 2012

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الترجمة لسان العالم  :: الترجمة واللسانيات :: دروس فـي التـرجمـــة-
انتقل الى: