دور الترجمة والمترجمين في حوار الحضارات
د. يحيی معروف
ملخص
الترجمة تحاول قهر العزلة؛ و السياحة عبر المكان لبناء جسر ثقافي بين اللغات. فكان المترجم هو الانسان النبيل الذي يعيد الانسان للتواصل والتلاقي من جديد علي أرض البدايات الموغلة في البداءة والحلم.هذا المقال يسعي لتبيين التعاون الثقافي الذي ننوي بناءه خطوة خطوة من أجل التلاقح الحضاري، حيثأنّنا بأمسّ الحاجة اليه أكثر من أيّ وقتٍ مَضَي لاشك أن الترجمة في جوهرها عملية مقاربة ومقابلة بينطرائق وأساليب لغوية مختلفة قد تتشابة حيناً وتختلف أحياناً أخرى. ومن هنا فان أنماط الترجمة وأنواعها تختلف باختلاف الغاية من الترجمة وتتراوح من التركيز علي فحوي ومضمون النص النواحيالجمالية والفنية فيه. ولكن الغاية الاساسية من الترجمة بلا شك هي ايجاد مقابل دلالي طبيعي في اللغة المترجم اليها. وهذا ما يميز الترجمة عن سواها من النشاطات اللغوية الاخرى كالاقتباس والتلخيص.فباديء ذي بدءٍ أُشِير فيه الىلفظة «الترجمة» من وجهة نظر أصحاب المعاجم وغيرهم ممن عنوا بالترجمة. ثم أُشير الي هدف الترجمة يعني التعرف على آداب وحضارة بعضها بعضاً والاطلاع والاستفادة مما صنعه الآخرون والوصول اليه في مجالات الادب والعلوم والفنون. بعد ذلك استعرضنا بدور علماء الفرس و العرب في الترجمة وحوار الحضارات و من خلاله أشرنا الى العديد من العلماء والمفكرين الذين ساهموا في بناء الحضارة الاسلامية من الفرس والعرب. بعد ذلك تطرقنا الى صعوبة الترجمة واصفاً بأنَّها ناتجة عن كون اللغات ليست جداول كلمات تقابل حقائق هي دوماً وموجودة سلفاً،ومن هنا تبين أن الترجمة ليست عملاً سهلاً فكل ترجمة لا تنقل المعني المقصود بأمانة وجدارة و قد تؤديالي التباين وسوء فهم لاسيما في مجال السياسة والعلاقات الدولية، الذي قد يؤدي الى كارثة. ثم أشير الى خطوات تنظيمية مقترحة للترجمة باعتبارها فناً تطبيقياً فانها تتطلب ممن يريد احترافها شروطا أساسيةأهمها بالطبع اتقان اللغتين، أو اللغات، المترجم منها والمترجم اليها في المفردات والتراكيب الصرفية والنحوية والتعابير الاصطلاحية. كما أنها تحتم على المترجم أن يلم بالخلفية الحضارية والثقافية لمتكلمي تلك اللغات. و في الختام استنتاج للبحث. و الحمد لله رب العالمين.
(دور الترجمة والمترجمين في حوار الحضارات)
المقدمة
الترجمة تحاول قهر العزلة و السياحة عبر المكان لبناء جسر ثقافي بين اللغات. فكان المترجم هو الانسان النبيل الذي يعيد الانسان للتواصل والتلاقي من جديد على أرض البدايات الموغلة في البداءة والحلم.هذا المقال يسعي لتبيين التعاون الثقافي الذي ننوي بناءه خطوة خطوة من أجل التلاقح الحضاري، حيث أنّنا بأمسّ الحاجة اليه أكثر من أيّ وقتٍ مَضَى. فبادىء ذي بدءٍ نشِيرُ الى لفظة «الترجمة» من وجهة نظرأصحاب المعاجم وغيرهم ممن عنوا بالترجمة. فالترجمة عموماً لها معنيان: سيرة فرد من الناس أو تاريخ حياته ثم تفسير الكلام أو شرحه أو نقله من لغة الى لغة. ولقد ورد في لسان العرب: [1] «التُّرْجُمان و التَّرْجَمَان: المُفَسِّرُ لِلِّسانِ...هُوَ الذي يُتَرْجِمُ الكلامَ أي ينقلُهُ من لغة الى لغة أخرى و الجمع: التَّراجِم و التاء و النون زائدتانِ»، وجاء في القاموس المحيط للفيروز آبادي [2] «الترجمان: المفسر؛ وتَرْجَمَهُ وتَرْجَمَ عنه، والفعل يدل على أصالة التاء» وفي هذا الاطار يناقش بعض دارسي اللغات الشرقيّة أن أساس الفعل هو «رَجَمَ» كما وردت في العربيّة والآراميّة والاوغاريتيّة وغيرها وأن التاء زائدة وسبب زيادتها يحتاج الى بحث لغوي في تاريخ الكلمة [3] ويؤكدون ندرة ورود كلمة «ترجم أو ترجمة» بالمعني المتعارف عليه حديثاً في النصوص العربية القديمة. قال الزبيديّ وقد شَكَّ في عربيّة هذه اللفظة بقوله: [4] «وقد تَرْجَمَهُ وتَرْجَمَ عَنْهُ اذَا فُسِّرَ كلامُهُ بلسانٍ آخرَ قاله الجوهري حيث ذكره في «رجم»، مع أن أبا حيان قد صرَّح بأنَّ وزنَه «تفعلان» ويؤيده قول ابن قتيبة في «أدب الكاتب» انَّ الترجمةَ تَفْعلة من الرَّجمِ، ثم وقعالخلاف هل هُوَ مِنَ الرَّجْمِ بالحجارة لان المتكلم رمي به أو منَ الرَّجْمِ بالغيبِ لانَّ المترجم يتوصَّل لذلك به، فقولان لا تنافي بينهما، وهل هو عربيٌّ أو مُعَرَّبُ دَرْغَمَان فَتَصَرَّفُوا فيه خلافٌ...» وقد جاءَ في«الصّحاح»:[5] «يُقالُ: قَدْ تَرْجَمَ كلامَهُ، اذا فَسَّرَ بلسانٍ آخرَ و مِنْهُ التَّرْجَمان و الجمعُ: التَّراجِم، مثل: زَعْفَران و زَعَافِر ويُقَالُ: تَرْجُمان و لَكَ أَنْ تَضُمَّ التاءَ لِضَمَّةِ الجيمِ فتقول: تُرْجُمان». بَيدَ أن المعاجم العربية لا يقدم تأريخاً عاماً أو مفصلاً لتطور معاني تلك الكلمات ودلالاتها. ولم يستخدم ابن النديم هذه الكلمة (الترجمة) وانما استخدم «النَّقْلَ» و«نَقَلَ» فقال:[6] «أسماءُ النَّقَلَةِ مِنَ الفارِسِيّ الى العَرَبِي» و«نَقَلَ مِن ... الي». وقد اسْتخدمَ لفظة «الترجمة» بمعني «العنوان» أيضاً: [7] «كتابٌ تَرْجَمَتُهُ...» أي «عنوانُهُ». وفيما يخص كلمة «الترجمان» فانها تأتي بالعربية بفتح التاء وضمها لضم الجيم، وتأتي أيضاً بفتح التّاء والجيم. وما يدل على أن الكلمة أصيلة في العربية أن العرب سموا بها، ففيالقاموس المحيط[8] «التَرجُمانُ ابنُ هريمٍ بن أبي طخمة»[9]. كما وردت كلمة «ترجمان» في الشعر العربي القديم مرات عديدة، قال نقادة الاسدي:[10]
فَهُنَّ يَلْغطْنَ بِهِ أَلْغاطا كالتَّرجمان لَقِيَ الاَنْباطا
وقال عوف بن محلم الخزاعي: [11]
اِنَّ الثَّمانينَ وَبُلِّغْتَها قد أَحْوَجَتْ سَمْعِي الى ترجمان
ووردت كلمة «ترجمان» مفردة وجمعاً عند المتنبي:
مَلاعِبُ جِنَّةٍ لَوْ سَارَ فِيها سُليمانُ لَسَارَ بِتَرْجُمَان [12]
تَجَمَّعَ فيه كُلُّ لَسْنٍ وَأُمَّةٍ فَمَا تَفْهَمُ الحِدَاثُ الاّ التَّراجِم [13]
وقال صاحب القاموس الكبير الفارسي «دهخدا»:[14] «تَرْجُمان، تُرْجُمان، تَرْجَمان: هو الذي يُقرّر كلامَ الاخَر ... هذه اللفظة عربية، أصلها في الفارسية «تَرْزَبان» فُعُرِّبَتْ فصارت «تَرْزَفان»... و قد قيل: انها مشتقة من «ترجوم» الارامية ...» و قد وردتِ اللفظة في اللغة الاكاديّة [15] وفي الآراميّة والسريانيّة[16] وفي العبريّة والحبشيّة [17]، ومعناها الاصلي: تفسير الكلام [18] و في تلك اللغات القديمة هي: تُرْجُمان و تَرْجَمان. وعلى الاغلب أنَّ الكلمة انحدرت من الاكادية الى عرب الجاهلية، أو أنها رحلت مع الاكاديين من اليمن الى جنوب العراق [19] وربما كان من المفيد أن نذكر العلاقة بين «ترجم» في العربية وأخواتها من اللغات الشرقيّة كالسريانيّة وهو«targhem» ويعني تَرْجَمَ ونَشَرَ وشَرَحَ وخَطَبَ وتَكَلَّمَ وفي العبرية «tirghem» ويعني تَرْجَمَ ونَقَلَ من لغة اليأخرى، ونذكر أن الترجوم targhum هو الترجمة الآرامية للتوراة واما كلمة «درغمان» «drogman» [20]في الفرنسية والانكليزية أيضاً ليست الا كلمة «ترجمان» العربية التي طرأ عليها التعديل كما حدث لكثيرمن الكلمات التي تدخل بين اللغات.
هدف الترجمة
كان هدف الشعوب القديمة من الترجمة هو التعرف على آداب وحضارة بعضها بعضاً والاطلاع والاستفادة مما صنعه الآخرون والوصول اليه في مجالات الادب والعلوم والفنون. وقد تميزت الشعوبالتي ركزت على الترجمة بفهمها لتلاقح الافكار والثقافات وادراكها لنتائج هذا التلاقح وأهميته. وفي مراجعة سريعة لتاريخ الحضارات القديمة يكتشف المرء أن الحضارات ازدهرت وتألقت حين تُرْجِمَت وتلاقحت وكانت الشَّكوي الوحيدة التي سجلها الجميع هي صعوبة وسائل الاتصال وبُعد المسافاتوالوقت الذي يتطلبه السفر من نقطة جغرافية الى أخرى للاستزادة بالعلم والمعرفة ومن ثَمَّ العكوف علىنقلها وترجمتها. أما اليوم فقد شهد عالمنا ثورة في وسائل الاتصال والتواصل بين البشر بحيث بدأوا يتحدثون عن قرية كونية تنطلق الكلمة فيها عبر الاثير أو عبر تقنية الاتصالات لتصل الى أبعد أصقاع الارض خلال دقائق أو حتي ثوان ولهذا أخذ الجميع يحلمون أن البشرية سوف تنصهر في بوتقة واحدة من المعرفة. [21] دون شكّ كانت الترجمة ولازالت بمثابة الجسر التي تعبر الثقافات من خلاله الى باقي المجتمعات منحولها دون أي جواز فهي تلعب دوراً كبيراً في خلق الحوار بين الآداب المختلفة، وتضييق الفجوة بين مختلف الحضارات والثقافات وتهييء الظروف لايجاد أدب عالمي مشترك. هذا النشاط في حد ذاته كانموجوداً منذ الازل، اذ مارسه البشر، سواء عن طريق الايماء أو الاشارة أو الكلام أو الكتابة، على مرّ العصور، فتبادلوا المعلومات فيما بينهم وتزاوجت الثقافات والحضارات فيما بينها أيضاً. [22]انَّ نظرية حوار الحضارات [23] باتت اليوم نظرية عالمية تحظي باهتمام واحترام و تقدير العديد من أصحاب الفكر والرأي في العالم لاسيما المنظرين و المفكرين منهم. لانَّ الاسلام في جوهره دين تقوم تعاليمه الاساسية على الحوار،والشرط الاول لقيام الحوار هو الاقرار بالتنوع و التعددية و التمايزات. و في الحقيقة هذا الحوار عبارة عن امكانية متاحة للرقي واعلاء شأن الانسان والمجتمعات. فلايتحقق ذلك الا عن طريق الترجمة. فكانت الترجمة وماتزال دعامة النهضات الفكرية والثقافية للشعوب وعن طريق الترجمة بدأت النهضة الثقافية في عصر الاسلام الاول، اذ أدرك المسلمون حاجة الامة الى استخدام غذائها الفكري، فتدفقت بواسطة الترجمة الوديان من مختلف الثقافات العالمية الى النهر العربي. فالترجمة هي الوسيلة المفضّلة للتعرف على مالدي الآخرين من تقنيات وأفكار مفيدة وغنيّة، وأيضاً بالمقابل لتعريف الآخرين على مالدي الشعوب، بكون الثقافة أخذ وعطاء وليست مسيرة وحيدة الاتجاه وهي بمجموعها مرحلة متتابعة باستمرار لابد من المرور بها لترجمة وتعريب كل مفيد من علوم وتعليم، ولاثراء اللغة وجعلها في عداد اللغات العصرية بعلومها وآدابها وفنونها وتقنياتها المتعددة. اذ أنَّ الترجمة ملازمة لتاريخ الانسان، لان تعدد الشعوب واختلاف اللغات التي برزت نتيجة المناخ والبيئة والغذاء والتناسل، أسهم في الحضارة الانسانية وجعل ظاهرة الترجمة الاداة الوحيدة لسد حاجة التواصل بين البشر فرادي وجماعات وفي كل أنواع التبادل. لقد عرف الانسان المتحضّر فضل الترجمة منذ زمان بعيد، فهي الجسر الذي تعبر عليه ثقافة الامم بعضها الى بعض فتزيد المعرفة وتعمق متعة الحياة هذا العالم. فهي عكاز التقدم والنهضة في كل بلدتخلف عن ركب الحضارة لسبب أو لآخر. انها الرمز والطابع لحضارة العصر الذي تمثلة كل أمة ناهضة. فقدازداد هذا التواصل بشكل وفير وخاصة في العصر الحاضر بعد الترجمات الحديثة من علمية وسياسيةوصناعية وأدبية التي تنطلق الآن قوية وعارمة مع صدور الجرائد والمجلات والقصص الرائجة المترجمة.[24]
دور علماء الفرس في الترجمة وحوار الحضارات
لقد اهتم علماء الفرس بلغه التنزيل المبارك، و أثروها من خلال تعريب الدراسات الادبية و اللغوية والتاريخية و العلمية بوجه عام، لا سيما في العصر العباسي الذي شهد حركة لغوية كبري عززت العربية، ولم تتقهقر اللغة الفارسية أمام اكتساح اللغة العربية، بل جاءت سنداً و عوناً لها، تقف الى جانبها و ترفدهابما تتوصل اليه من مستجدات علمية. و بسرعه انتشرت العربية في أوساط المجتمع الفارسي، و غدت لغة عامة الناس و المثقفين منهم بوجه خاص. و ما أخبار المناظرات و حلقات البحث و التدريس باللغة العربية التي يؤكدها المؤرخون الا دليلا قاطعاً على تغلغل اللغه العربية و الثقافه العربية في المجتمعالايراني. و هنا نشيرالي المناظرة الادبية التي جرت باللغة العربية بين أبيبكر الخوارزمي و بديع الزمانالهمذاني في مدينه نيسابور، و بحضور حشد من عامة الناس، مما يدلّ على أن هذه اللغة كانت سائدة ومفهومة في الوسط الشعبي الايراني. و الكل يعلم ما لمؤلفات علماء الفرس من قيمة بالغة، و قد ألّفوها باللغه العربية، كما وضعوا علوم العربية في صرفها و نحوها و بلاغتها و عروضها، فقد قننوا قواعدها، ونظموا قوالبها، نذكر من هولاء العلماء عبدالحميد الكاتب [25](ت 132 ق) و عبدالله بن المقفع [26] (ت 142 ق) و أبا اسحاق ابراهيم بن العباس بن محمد الصولي الخراساني (ت عام 243 ق) وابن قتيبة الدينوري و على بن عباس الاهوازي (ت 384 ق) الذي ألّف كتاب «كامل الصناعة» في الطب و أباسهل المسيحي الجرجاني (ت 403 ق) الذي ألّف كتاب «المائة في الصناعة الطِّبيَّة» و أبا علي سينا«القانون» في الطب و محمد بن زكريا الرازي (ت 313 ق) ألَّف كتاب «الحاوي» في ثلاثين مجلداً و كان فيه معلومات قيمة حول المسائل الطبية التي حصل عليها بالتجارب العلمية والتي استفاد منها في علاجه للمرضي. للرازي مؤلفات كثيرة في مجال الطب، منها: طب المنصور، كتاب الشكوك، و من لايحضره الطبيب، و كتاب الجدري، و غيرها. و منهم أيضاً عبيدالله بن جبرئيل و هو من أسرة بختيشوع الجندي شابوريّ (ت 450 ق) الذي ألَّف كتاباً في علم الحيوان أسماه «طبائع الحيوان» و ابوالحاكم محمد بن عبدالملك صالحي الخوارزمي في علم الكيمياء (425 ق) كتاباً سمّاه «عين الصنعة» و ابوريحانالبيروني (ت440ق) ألّف في معرفه الاجسام كتاباً باسم «الجماهر في معرفه الجواهر». فضلاً عن ذلك نري جمع غفير من كبار الشعراء العرب من أصل فارسي كبشّار بن برد الطخارستاني، و أبي نؤاس الاهوازي و أبي العتاهية و غيرهم. اضافة الى هؤلاء عرف تاريخ علوم العربية والاسلام اعلاماً منالايرانيين. فعلم النحو يدين لسيبوية، فضلاً عن نحاه ولغويين آخرين من أصل ايراني كالكسائي والسجستاني والسيرافي وابن دستورية وابي علي الفارسي والسرخسي والكرماني والرازي وابن خالويه.والقراء السبعة الذين انتهت اليهم الامة في قراءة القرآن ورجال الطبقة الاولي من القرآن الذين تسلسل فيهم السند الى الائمة السبعة اكثرهم من أصل فارسي. [27] فهل نستطيع أن نتجاهل بعد العطاء الذي توحيه أسماء ابن المقفع و عبدالحميد الكاتب و ابن العميد والصاحب بن عبّاد و ابن سينا و سيبويه و الزمخشري و الثعالبي و ابن قتيبة و أبي الفرج الاصفهاني والفيروز آبادي و عمر الخيام و سعدي الشيرازي و جلال الدين الرومي و الكسائي و ناصر خسرو والسهروردي و غيرهم و غيرهم من الالوف المعروفين في مختلف ميادين العلم و الثقافه؟
انه مازال و لحد الا´ن تُستخدم الكتب المترجمة من الفارسية الى العربية في البلاد الاسلامية فضلاً عنالمفردات الفارسية التي تستخدم في الاوساط العربية كـ«بيمارستان» أو «مارستان» و جمعها«بيمارستانات» أو «مارستانات» و غير ذلك من المفردات الفارسية تسرّبت الى العربية، و شاعت فيمختلف البلدان العربية طيلة عهود مختلفة، و حصل هذا التسرّب اللغوي قبل الاسلام و بعده بسبب الجوار و القوافل الفارسية العابرة صحراء العرب في طريقها الى اليمن و الحبشة، ثم بعد الاسلام حيث شملت نواحي عديدة. و تغلغلت المدنية الفارسية في حياة العرب أيام بني أميّه و بني العباس، فوجد العرب أنفسهم أمام ألوان من الطعام و فنون من طرق العيش و أشياء لا حصر لها من أدوات الزينة و الاثاث و غيرها. و نحن لانجد في تاريخ الادب العربي أدباً خارجياً أثر الادب الفارسي، كما أن تاريخ الادب الفارسي لم يعرف في جميع عصوره مؤثراً خارجياً أكثر شمولاً و أعظم تأثيراً من اللغة العربية و الادب العربي. كذلك لايُخفي مدي تأثّر واضعي قواعد اللغة الفارسية بأسلوب تأليف الكتب الصرفية و النحوية العربية. نعم هذه هي الثقافه العربية الاسلامية التي تغلغلت في صميم الثقافة الايرانية و التي لها أهمية بالغة في وجدان الامّة الايرانية بوجه عام. و لقد ساهمت الثقافة الفارسية بتاريخها العريق و حضارتهاالانسانية الخصبة في تشييد عمارة الفكر العربي، و أمدّته بعوامل الازدهار و التألق في جميع فنون المعرفةمن طب و رياضيات و فلسفة و علوم مختلفة. و بالمقابل نري اللغة العربية موجودة في الفارسية بكمّ كبيرمن مفرداتها أيضاً. نحن لا ننسي أن اوائل العلماء الرياضيين و المنجمين في أجهزه الخلافة العباسية كانوامن الايرانيين، و من العلماء الرياضيين و المنجمين الذين كان لهم أثر كبير على الساحة العربية و الاسلامية بما قدموه من جديد في هذا الحقل، حتي تمت ترجمة بعض كتبهم الى العربية، كان أكثرهم من الايرانيين.حيث يمكننا أن نذكر منهم: أبا ريحان البيروني، الخواجه نصيرالدين الطوسي، خيام النيسابوري، محمدبن موسي الخوارزمي، غياث الدين جمشيد، محمد بن عيسي الماهاني، و غيرهم ممن لهم دور حيوي وفعّال في ثقافة الحضارة الاسلامية. وفي الحقيقة يعدّ الادب ميداناً حيوياً من ميادين حوار الثقافات والشعوب، فقد امتزج الادبان العربي والفارسي امتزاجاً منقطع النظير منذ العصر العباسي و لحد الا´ن. ويبدو للوهلة الاولي أن علاقة كل منهما بالآخر قد انقطعت في العصر الحاضر، لكن الواقع يثبت أن اهتمام الفرس بالادب العربي استمر وما زال مستمراً، وسيستمر في المستقبل ويرجع ذلك الى الخلفية الحضارية المشتركة الغنية بأفكارها وآدابها وتراثها وعقائدها. لقد اتجه الفرس في العصر الحاضر الى الشعر والنثر،واتجه العرب اتجاهاً مشابهاً واتخذ الشعر والنثر عند كل منهما منحي اجتماعياً، وراح الشعراء يصورون تجاربهم الشعرية بشكل محسوس مع تغيير في قالب يلائم هذا التحول. وتأثَّر كلّ من العرب والفرس بعضهم بعضاً، وكان الادبان كلاهما على اتصال وثيق بالحياة الاجتماعية والسياسية. ووجدت بينهمااشتراكات كثيرة فلم تتوقف حركة الترجمة عند الايرانيين عبر هذه السنوات، اذ ترجموا لمعظم الشعراءوكتّاب العرب المعاصرين، ووجود تراجم كثيرة في المجتمع الايراني خير دليل على يقظة هذا المجتمع لتدعيم صلات المودة بين الامتين، كما أنها خطوة للتعرف على فكر الآخر المختلف في اللغة تحقيقاً لمبدأ أساسي هو وحدة الجنس البشري. فمن هذا المنطلق نري كثرة المؤلَّفات العربية المترجمة مِن أوالي الفارسية. منها ترجمة أشعار نزار قباني ونثره الى الفارسية. ففي عام (1347 ش) قام الاستاذ محمدرضا شفيعي كدكني بترجمة قسم من أشعاره الى الفارسية نشرتها مجلة «سخن» وفي عام 1354 ترجم محمد باقر معين مجموعة «غضب السنابل» المحتوية على قصيدة طويلة له طبعتها منشورات آكاه عام1354 ؛وفي عامي 1354 و1355 ترجم فرامرز حسني ثلاث قصائد له نشرتها صحيفة كيهان. وفي عام1356 ترجم غلام حسين يوسفي (قصتي مع الشعر) بالتعاون مع يوسف بكار. وفي عام 1359 خصّص د.شفيعي كدكني قسماً في كتابة «الشعر العربي المعاصر» لنزار قباني وأعطاه عنوان (أناشيد في العشق بلانظير).[28] في الحقيقه اغناء الادب العربي و النمو السريع للغة العربية، مدين الى حد كبير الى الايرانيين من أمثال هؤلاء الذين ذكرناهم أدناه. و اما من جملة الكتب التي ترجمت الى العربية و آدابها نستطيع ان نذكر الكتب التي ترجمت العربية و أثّرت آنذاك تأثيراً كبيراً على اللغة العربية و آدابها نستطيع أن نذكر الكتب التالية:[29]«جاماسب» في الكيمياء، «آيين تيراندازي» أي أصول الرماية؛ «زيج شهرياري» أي حساب النجوم؛ و«كارنامه انوشروان» أي قائمة أعمال الملك أنوشروان؛ و «كاهنامه» أي التقويم السنوي؛ و «داستان رستم و اسفنديار» أي قصة رستم و اسفنديار؛ و «آيين جوكان زدن» أي أصول ضرب الصولجان؛ و «هزار افسانه»أي ألف أسطورة؛ و «داستان بهرام جويين» أي قصة بهرام جوبين؛ و «داستان اسكندر» أي قصة الاسكندر؛ و «بختيارنامه» أي رسالة بختيار. و منذ أواخر القرن الهجري الرابع حينما انتشرت الثقافةالاسلامية وتأسست لذلك مدارس في مختلف أنحاء ايران، وغلبت الديانة الاسلامية على سائر الاديان،واجهت مقاومة الزرادشتيين في ايران هزيمة مصيرية نهائية، وبدأت تتجلي الثقافة الفارسية بالصبغة الاسلامية، وتأسست أسس التعليم على الادب العربي والدين الاسلامي.. حينذاك أَكْثَرَ الكُتّاب والشعراء من نقل الالفاظ العربية، وقللوا من الكلمات والامثال والحكم السابقة في النثر والشعر. ونحن نري أن حكم بوذرجمهر والافستا وزرادشت ترد في شعر الفردوسي والدقيقي وغيرهما من شعراء العهد السامانيوأوائل العهد العزنوي أكثر منها في شعر العنصري والفرخي والمنوجهري في القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الهجري» [30] ومنذ القرن السادس الهجري ازاد التلاصق بين اللغتين الفارسية والعربية وكثر استعمال المفردات والمصطلحات العربية في النثر، فضلاً عن تداولها بين الشعراء. بل ودخلت في هذه الفتره حتي المفردات والعبارات العربية التي لا يبدو دخولها ضرورياً ولم تستدع الحاجة اليها[31] «ودفع التأثر بالعربية بعض الايرانيين القدماء الى كتابة مؤلفاتهم بالعربية ومن هؤلاء:«الصاحب بن عباد(توفي 385 هـ) من مدينة طالقان الايرانية، وأصبح وزيراً لمؤيد الدولة البويهي ومن ثم أخيه فخرالدولة.وكان يكرم الشعراء والكتاب ويهتم بالادب العربي. ومن أهم آثاره بالعربية كتاب «المحيط في اللغة»؛ «بديع الزمان الهمداني (ت 398 هـ) ولد بهمذان وانتقل الى خراسان وجرجان. له بالعربية كتابه«المقامات» و«الرسائل»؛ «ابن مسكويه (ت 421 هـ) مفكر أديب وكان ذا نفوذ عظيم في البلاط البويهي. له«تجارب الامم» و«تهذيب الاخلاق»؛ أبوريحان البيروني (ت 440 هـ) عالم ايراني شهير برز في مختلف العلوم والتاريخ والادب، ومن مؤلفاتة «الآثار الباقية من القرون الخالية» و«القانون المسعودي في الهيئة والنجوم»؛« ابن سينا (ت 428 هـ) من مشاهير ايران ومفاخرها، ولد في بخاري وتوفي بهمذان. برع فيالطب والنجوم والرياضيات والحكمة والمنطق. من مؤلفاته: «القانون في الطب» و«الشفاء» و«الاشارات والتنبيهات» وله في النفس القصيدة الشهيرة التي مطلعها: «هبطت اليك من المحل الارفع ورقاء ذات تعزز وتمنع» ولم تنفذ العربية مفرداتها ومصطلحاتها الى الفارسية فحسب، بل نفذ الخط العربي أيضاً. فقد وجدالايرانيون أن الخط العربي أسهل بكثير من الخط البهلوي، وانه يمتلك القدرة للتعبير عن لغتهم بجدارة.يجب أن نعلم أنه لا توجد في العالم لغة خالصة كما يتصور البعض؛ فاللغة الحية تؤثر وتتأثر،تعطي وتعطي وتأخذ، وتترك بصماتها على اللغات، وتترك اللغات الحية بصماتها عليها. ويبدوا هذا التأثير المتبادلجلياً بين اللغتين العربية والفارسية. ويبدي أدي شير (رئيس أساقفة الكنائس الكلدانية) في كتابه «الالفاظ الفارسية المعربة» دهشتة لنفوذ الفارسية الى هذ الحد في اللغة العربية، رغم أن الفارسية من فصيلة اللغاتالآرية، في حين لم تؤثر في العربية لغات سامية من فصيلة العربية نفسها كالسريانية والرومية والقبطية والحبشية. والارتباط اللغوي كما نعرف بين اللغات ذات الاصل الواحد أسهل من اللغات ذات الاصول البعيدة [32] «وليس هناك من سبب مقنع لتفسير هذه الظاهرة سوي أن الاسلام قد قارب بين اللغتين وعمل علىاحداث هذا التأثير المتبادل العجيب. فلعب الايرانيون دوراً بارزاً في ازدهار اللغة العربية لاسيما على صعيد الادب العربي، حتي أن الاستاذ الشهيد مرتضي المطهري قال:[33] «لم يخدم العربية أحد كما خدمها الفرس» وهذا نابع من أنهم لم يكونوا ينظرون الى العربية كلغة أجنبية بل يعتبرونها لغة اسلامية أممية تتعلق بجميع المسلمين في العالم. ورغم حصول نفر من الادباء الايرانيين على مناصب مهمة في العصر الاموي كجبلة ابن سالم الذي كان كاتباً لدي هشام بن عبدالملك وعبدالحميد الكاتب الذي أصبح كاتباً عند مروان بن الحكم، فان نبوغ الايرانيين في الانشاء والشعر وسائرالفنون الادبية قد تجلي بصورة واضحة في العهد العباسي لنفوذهم الى كافة المراكز السياسية والادارية والاجتماعية والعسكرية، وتقلدهم مناصب عليا كالوزارة والكتابة، واشتغالهم بالعلم والادب.
دور علماء العرب في الترجمة وحوار الحضارات
عرف العرب الترجمة منذ أقدم عصورهم، ولقد أشار الدكتور عبد السلام كفافي في كتابه «في الادب المقارن» الى أن العرب كانوا يرتحلون للتجارة صيفاً وشتاءً ويتأثرون بجيرانهم في مختلف نواحي الحياة ،لقد عرفوا بلاد الفرس، وانتقلت اليهم ألوان من ثقافتهم وانتقلت بعض الالفاظ الفارسية الى اللغة العربية ،وظهرت في شعر كبار الشعراء، وكان الاعشي من أشهر من استخدم في شعره كلمات فارسية. كذلك عرف البعض جيرانهم البيزنطيين. اذن احتك العرب منذ جاهليتهم بالشعوب الثلاثة المحيطة بهم ، وهي الروم في الشمال والفرس في الشرق والاحباش في الجنوب، ومن الصعب قيام مثل هذه الصلات الادبية والاقتصادية دون وجود ترجمة، وان كانت في مراحلها البدائية. وفي زمن الدولة الاموية، تمت ترجمة الدواوين.[34] فكان العرب في العصور المنصرمة يهتمون بالترجمة ولهذا ظهرت عدة ترجمات لنص واحد، فعلى سبيل المثال:
1ـ ترجم أبوبشر متى بن يونس كتاب "الشعر" لارسطو (384-322) ثم ترجمة مرة ثانية يحيى بن عدي .فتكرار الترجمة يدل على الحرص على دقتها.
2-ترجمة كتاب «كليلة ودمنة»: ترجمة ابن المقفع حوالي 750م، ألَّف كتاب «كليلة ودمنة» باللغة السنسكريتية الفيلسوف الهندي بيدبا وقدمّه هدية لملك الهند دبشليم الذي حكم الهند بعد مرور فترة من فتح الاسكندر المكدوني لها، وكان ظالماً ومستبداً، فألَّف الحكيم بيدبا الكتاب من أجل اقناعه بالابتعاد عن الظلم والاستبداد، وبهدف اسداء النصيحة الاخلاقية. والكتاب مجموعة من الامثال على ألسنة الحيوانات. وقام الطبيب الفارسي برزوية بنقل الكتاب من بلاد الهند وساهم بترجمته من السنسكريتية في عهد كسرى أنوشروان ووزيره بزرجمهر، الذي له دور كبير في تأليف وترجمة الكتاب. وقام عبد الله بن المقفع وهو فارسي الاصل في عهد أبي جعفر المنصور بترجمتة من الفارسية الى العربية وأضاف اليه بعض الاشياء، وكان هدف عبد الله بن المقفع من ترجمة «كليلة ودمنة» تقديم النصيحة للمنصور للكف عن ظلم العباد، فأراد ابن المقفع من كتابة الاصلاح الاجتماعي، والتوجيه السياسي،والنصيحة الاخلاقية. ولكنه نفسه لم ينج من الظلم فقتله الخليفة. ولقد حدث أن أعيدت ترجمة كتاب«كليلة ودمنة» الى اللغة الفارسية عن النص العربيّ، لضياع الفارسية وهو الامر نفسه الذي حدث لبعض النصوص الاغريقية وكانت لغة عبد الله ابن المقفع جميلة بعيدة عن الابتذال وتمت الترجمة، كما هومعروف عن لغة وسيطة، لان الكتاب بالاصل كتب باللغة الهندية القديمة، وليس باللغة الفارسية. وجرتعلى الكتاب بعض التعديلات قام بها الطبيب الفارسي برزويه أثناء الترجمة الى الفارسية وكذلك أضاف الوزير الفارسي بزرجمهر بعض الاشياء الى الكتاب مثل ما يخص بعثة برزوية الى بلاد الهند، وأثناء الترجمة من الفارسية الى العربية أضاف عبد الله بن المقفع بعض الاشياء، ولقد أشار الى هذه الامور فاروق سعد في مقدمتة لكتاب كليلة ودمنة.[35] فاننا لم نغلُ ان قلنا من أهم عوامل ازدهار الادب العربي ترجمة الكثير من الكتب البهلوية الى العربية علىايدي شخصيات ايرانية، الامر الذي فتح أمام الادب العربي آفاقاً جديده، وتعرف انماطاً أدبية لم يكن قدألفها من قبل. ومن بين الكتب التي ترجمت خلال القرون الهجرية الثلاثة الاول: خداينامه (سيرالملوكالفرس)، وقصة بهرام جوبين، وقصة رستم واسفنديار وغيرها. ومن أشهر من ترجم عن الفارسية: جبلة بنسالم، وابن المقفع، ونوبخت المنجم وولداه موسي بن خالد ويوسف بن خالد، والحسن بن سهلالمنجم، وأحمد بن يحيي ابن جابر البلاذري، واسحاق بن على، ومحمد بن الجهم، وزادويه بن شاهويه،وعمر بن فرخان الطبري[36] «ويعد تطور كتابة الرسائل الخطوات الاولي على طريق ازدهار الادب العربي. وكانت كتابة الرسائل فيصدر الاسلام والجزء الاعظم من عصر الامويين في غاية الايجاز. ومن أوائل من وضع نظاماً لكتابةالرسائل هو جبلة بن سالم بن عبدالعزيز. ويعد من أقدم من ترجم عن البهلوية. ونسب اليه ابن النديمترجمة قصتي «بهرام جوبين» و«رستم واسفنديار».
صعوبة الترجمة
ان صعوبة الترجمة ناتجة عن كون اللغات ليست جداول كلمات تقابل حقائق هي دوماً وموجودةسلفاً، ومن هنا يتبين أن الترجمة ليست عملاً سهلاً فكل ترجمة لا تنقل المعني المقصود بأمانة وجدارةتؤدي الى التباين وسوء فهم لاسيما في مجال السياسة والعلاقات الدولية، الذي قد يؤدي الى كارثة. وأبلغمثال على ذلك، كلمة الفعل الياباني «موكي ساتسو» التي تُرجمت أو فُسّرت خطأ باللغة الانكليزية أثناءالحرب العالمية الثانية، والتي جعلت أميركا تُلقي قنابلها الذرية على هيروشيما وناغازاكي، حيث في ذلك الوقت طالب الامريكان اليابانَ بالاستسلام الفوري، دون قيد أو شرط، فكان رد رئيس الوزراء الياباني«سوزوكي» بالكلمة «موكي ساتسو» التي فُسّرت بمعنيين: 1ـ لا تعليقَ. 2ـ القتل بالصمت. فسارعت أمريكا الى الاخذ بالمعني الثاني لفهمها وكأن رئيس وزراء اليابان قد رفض الانذار. غير أن وكالات الانباء فيما بعد، قالت، انّما كان يعني أن حكومة اليابان عنت عدم اتخاذ أي قرار أو اجراء أو عدم التعليق بانتظارتوضيح الامر كجواب لجملة «دون قيد أو شرط» [37] نظراً لاهمية الترجمة في الحياة الثقافية، لذلك استدعت أن تكون موضع تقدير ونظر الادباء والمفكرين العرب، فتعمقوا الغوص في حيثياتها، وأهدافها؟ وشروطها وسعة أدائها منذ القديم. ولعل من أبرز من تطرق الى مثل ذلك هو: أبوعثمان الجاحظ، في كتابه الحيوان:[38] «ولابد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكونأعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول اليها، حتي يكون فيها سواء وغاية الخ ....» وهكذا نري الجاحظ يشترط في المترجم أن يكون ذا قدرة على البيان والتعبير لا تقل عن علمه ومعرفته وأن يكون متقناً اللغتين المنقول منها والمنقول اليها على السواء. غير أنه استبعد أن يكون المترجم كذلك، لانه يصعب عليه جمع سوية واحدة بين لغتين [39] ويري الجاحظ أن الذين يمزجون في كلامهم بين لغتين، ليسوا أهلاً للثقة، لانهم لا يتقنون أيّاً منهما اتقاناً تاماً. ويشدد الجاحظ على ضرورة سبك المضمون بأسلوب عربيّ سليم. [40] بالنسبة للمترجم فالفكرة مصاغة لا تعود اليه، وليس له أن يفتش عنها بل وأن ينقلها بلغة أخرى، وحيث أنها تعود منشيء النص لذلك يمكن القول أن الكلام في الترجمة يعود الى المؤلف والمترجم بآن واحد، كما لابد من الاهتمام بعنصرين هامين في الترجمة هما: الفكرة وهي الموضوع والاساس والكلمة التي تساوي الشكل والصيغة ولا يمكن فصلهما لانهما مندمجان بدقة. فالافضلية في الترجمة هي للجوهر أي الاساس، وقد لا تعطي ترجمة نصٍ ما نفس المعني الاصلي الوارد في لغة الاساس، وأيضاً قد نجد في فكرة ما أنها لم تُتَرجمْ بجميع كلماتها، لماذا، ولان دلالة الكلمات ليست واحدة في جميع اللغات ولان بنية الجملة ـ وتركيبهاـ ونحوها، ليس واحداً في جميع اللغات.[41]
فالمترجم يكاد أن يصبح شريكاً في تأليف العمل عند نقله الى لغة وثقافة أخرى. اللغة كما هو معروف كائن حي فهي في نمو مستمر، تتطلب أن يجمع اليها ما هو نافع ومفيد، ونفض أو اهمال مايمكن الاستغناء عنه، مثل بعض العبارات المجازية التي أكل عليها الدهر وشرب، كعبارة (لايملك شر ونقير)وعبارة (خاوي الوفاض) وغيرها. فالانسان المترجم لدية القدرات الذاتية والمعارف الآنية والمقاميةوالمعرفة بالموضوع تساعده في انجاز الترجمة الصحيحة. وقد تكون هذه الامور سهلة ومتوفرة بطريقة أوأخرى للانسان، ولكن توفيرها الى الحاسوب تعترضه الكثير من المعوّقات الفنية والتي تجعل بدورهاالكثير من العبارات والكلمات تتطلب تدخل الانسان وتحاوره مع الآلة بوجود ما يُسمي بالتنقيح السابق والتنقيح اللاحق حيث يقوم المترجم بمراجعة النص في لغة المصدر واجراء بعض التعديلات بما ينسجم والقاموس والقواعد التـي تستخدمها منظومة الترجمة الآلية، وقبل المباشرة بالترجمة. أما التنقيح اللاحق فيتطلّب من المترجم اجراء التعديلات على نص لغة الهدف للخروج بنص مترجم مقبول. ان ذلك يعني وبالتأكيد عدم وجود منظومات لها المقدرة على الترجمة الكاملة %100. [42]
أما عن التعبير المتعارف عليه: بأن (الترجمة خيانة) فما هو الا وصفة قاسية وظالمة لعملية الترجمة، مهمايكن مقدار صحتها، ذلك لان الترجمة تمثل عملية نقل محسوس غير ملموس، نقل دلالات. وتحت كلالظروف، فلا بد أن تُحدث شيئاً ما من التغيير والتحريف، أو الانحراف الاضطراري أحياناً عن المنقول أثناء عملية النقل، فلا ذنب للمترجم، في حالة كون الكلمة في لغة معينة لا تجد نظيراً دقيقاً لها في اللغةالاخرى، وان وجدت فما أكثر ما تحمله الكلمة المناظِرة من اختلافات، وخاصة تلك الكلمة المتعلقة بالشؤون المعنوية. ثم انه لمن الاجحاف أن ننكر على المترجم ذائقته ورغبته، أو حقه في ابراز شخصيته والايحاء بوجودها ودورها المهم، ووضع بصمته على عمله. وان على أولئك الذين يرون بأن على المترجم أن يكون مضحياً مختفياً جندي مجهول وراء الكواليس، وأن يكون له دوراً شبيهاً بدور الملحن أوالمخرج، الذي يتميز بالدور الكبير، فعليهم أن يتذكروا بأن هؤلاء الغائبين بوجوههم، حاضرون بأرواحهم ورؤيتهم وذائقتهم وأسلوبهم على امتداد العمل. وكما أننا نستطيع التعرف على المخرج أو الملحن لمجرد اطلاعنا على طبيعة وأسلوب عمله، فلا ضير من أن نتمكن أيضاً من معرفة المترجم بمجرد قراءة النص الذي قام بترجمته. لاشكّ أن للترجمة ميدانا هاماً جداً من ميادين المعرفة والثقافة والفن، ولهاانعكاسات فكرية وسلوكية غزيرة على مزاوِلها قبل متلقيها أو مستهلكها، فتعلم لغة أخرى سيكون بمثابة نافذة تطل على عالم آخر جديد ومغاير، فهي توسع من ادراك وثقافة المتعلم لها، وتقوم باخصاب فعال لما يمتلكه، في الوقت الذي قد تريحه من تبعه سلطة أحادية أفكار متوارثة كثيرة، وذلك عبر هذا التلاقح وتضارب أو تشابك الافكار والعادات والقيم التي تأتي مع اللغة الجديدة. [43] في الواقع للترجمة لذة تجيء مع الاحساس والشعور البديهي الذي يضفي قوة على مرتكزات الثقة بالنفس من حيث القدرة وسعة الادراك، ثم امكانية الفرد الواحد من التعامل الثنائي بصيغة مشروعة ومحبوبة ومحسودة، سيجعله أكثر استمتاعاً في اراحة ذاته: أي التبديل الذهني عبر ممارسة ذاتين في آن واحد، فيصبح كمن يستند على ساقيه في آن واحد عند وقوفه أو يرواح بينهما ويناوب استنادة من ساق الي أخرى. واذا حاذرنا في اعتبار امتلاك لغة ثانية ذاتاً أخرى، فعلى الاقل سيكون بمقدورنا اعتباره مضاعفة واثراء للذات الاولي، لان شخصية الانسان أو ذاته هي مجمل أفكاره وثقافته وعاداته المؤثرة على صياغة أحاسيسه، وخاصة أن أغلب ما يتعلمه المرء ويعرفه ويعيه، هومتأتٍ بوساطة اللغة، و هومتجسد في ذهنه وقناعاته بأشكال الرموز اللغوية واشاراتها ودلالاتها.[44] فظاهرة الترجمة وليد شرعي للظاهرة اللغوية لدي البشر؛ فما أن تفرّق البشر، شعوباً وقبائل"، وتطورّت لديهم الظاهرة اللغوية ألسُناً مختلفة حتـي برزت الحاجة الى الترجمة لتحقق بين الناطقين بلغات مختلفةما تحققه اللغة الواحدة بين الناطقين بها من وظائف توصيل الافكار والمشاعر والرغبات، ولتحقق التفاهم الذي هوالوظيفة العليا للغة. فالترجمة لايمكنها أن تنجح في التعامل مع كل الوظائف التي طوّرتها اللغات عن وظيفتها الاساسية في ابلاغ أو توصيل الرسالة من المرسِل الى المرسَل اليه أو المتلقي واذا كانت الرسالة في اللغة الواحدة لا تسلم، كما نعلم من خلل في التوصيل بسبب الخلط أو الابهام أو التشويش لعلّه في طرفٍ أو أكثر من أطراف الحدث اللغوي مما يقتضي ممارسة شكل من أشكال الترجمة الداخلية توضيحاً وتفسيراً أو اعادة صياغة. فان الحدث الترجمي بين اللغات المختلفة يكون أكثر عرضة للخلل،ذلك لانه يتضمن في آن واحد ضعف ما يتضمنه الحدث اللغوي في اللغة الواحدة من أطراف وفعاليات ،اذ يتحتّم على المترجم أن يكون متلقياً ومُرْسِلاً في الوقت نفسه، ويتحتّم علىه أن يدير، بسيطرة يُفترضأن تكون كاملة. نظامين مختلفين من الترميز اللغوي، فيفكّ، بمساعدة النظام الاول، رموز الرسالة في صيغتها الاولي، أي في لغة المصدر ويُعيد، بمساعدة النظام الثاني، تركيبها رموزاً جديدة، ثم يبثّها مجدداً، كتابة أو كلاماً، بما يُفترض أن يضمن لها كمال الابلاغ وحسن التلقي، أي الفهم الكامل لها من لدن من تتوجه اليهم بوعائها اللغوي الجديد، أي في لغة الهدف وهنا نطرح سؤالاً لابدّ من طرحه حول مدياتالكفاية وحدود القصور ودرجة الثقة التي يمكننا أن نمنحها للنص المترجم. الاجابة عن هذا السؤال تتطلب معرفة هدف الرسالة أولاً، وطبيعة اللغة المستخدمة فيها ثانياً. فاذا كان الهدف مجرّد توصيل الحقائق أو المعلومات خلال لغة محايدة أو شفّافة لا تثير الانتباه لذاتها ولا تستهدف سوي وظيفتهاالتوصيلية، أي عندما تكون مفرداتها أحادية المرجع لا تشير فيها الدوال الاّ الى مدلولات محددة أو لايُبتغي منها غير توصيل مراجعها الى المتلقي مجرّدة عن أي ظلال ايحائية أو قيم انفعالية، اذا كان ذلك هوهدف الرسالة، وكانت تلك هي طبيعة اللغة المستخدمة فيها، فان مدى كفاية الترجمة يكون واسعاً،وتكون مهمة المت