الروابط والضوابط والتحريف في الترجمة العربية المعاصرة
علي درويش
يُحكى أن عمالقة اللغة العربية في القرن المنصرم اجتمعوا في مجمعٍ للغة العربية وراحوا يناقشون ويبحثون ويجادلون جلسات طوالاًُ في معنى كلمة (classic) ويحاولون وضع مقابل عربي لها. وفي سعيهم الدؤوب والحثيث للوصول إلى مصطلح دقيق يستوفي المعنى الأصلي حرصوا، كما ينبغي وتقتضي الأمانة العلمية في الترجمة، وكما فعل أسلافهم في الزمان الغابر أمثال أبي الترجمة العربية الأول اسحق بن حنين وحنين بن اسحق وقسطا بن لوقا البعلبكي وثابت بن قرة الحراني، على فهم معنى ذلك المصطلح الجديد عليهم. فحاورا وداروا فلم يجدوا في حصيلتهم اللغوية الأجنبية، وكان معظمهم قد تتلمذ على أيدي معلمين من إرساليات فرنسية وبريطانية ودرسوا الآداب العالمية وكانوا على قدْر من المكنة والاطلاع، ولكن لم تكن عندهم لا شبكة انترنت ولا فضائيات عربية، فاتصلوا بمراكز لغوية وثقافية في فرنسا يستفسرون عن معنى كلمة (classic). وبعد أن تثبتوا من معناها، راحوا يتخبطون ويتباحثون فيما بينهم ويعتصرون أدمغتهم اللامعة بحثًا عن مقابل عربي لها فلم يجدوا ضالتهم فرسوا على تعريب المصطلح بـ (كلاسيكي) في بادئ الأمر. فمهدوا الطريق ورصفوا الأرصفة لديناميكي وتكتيكي وكيكي كيكي وغيرها من مهازل وسفسفات. ولمن يرد التعمق هنا، فإن أصـل (tactic) الذي ترده المعاجم الأجنبية إلى اليونانية القديمة (taktikós) بمعنى الترتيب هو في الأصل مأخوذ عن اللفظ العربي (تخت) من (التخت الموسيقي) و(العرش) و(السرير) و(الوعاء)، المعرب بدوره من اللفظ الفارسي (تخته) بمعنى (خشب).
ولا بد من الوقوف إجلالاً لهم على جهدهم وسعيهم للتثبت والتأكد من معنى مصطلح واحد ووضع مقابل عربي له. ولكن هذه الرواية تظهر أمرًا مخيفًا جدًا هو أن معظم أولئك المدعين آنذاك لم يكونوا سوى أقزام معرفتهم بلغتهم ضحلة وعلمهم بتراثهم أشد محلا. ولكنهم كانوا كإخوانهم اليوم في مجالات شتى أعضاء أندية مغلقة ونواد خاصة توافرت لهم واتفرت سبل الوصول إلى تلك المراكز والمناصب فعاثوا فيها خرابًا وفسادًا، كما تفعل النخب المستنخبة اليوم في الإعلام والصحافة والسياسة الأدب وغيرها من المجالات والمناشط بسبب الجهل والأمية في المقام الأول في مؤسسات ومنظمات وجمعيات تشدد على المهارات والكفاءات والمواهب، فلا تجد فيها إلا مواهب الجهل والأمية ومهازل يكتب المرء فيها موسوعات ومجلدات لا تنتهي. قالت له الغادة الحسناء في نهاية المقابلة: السؤال الأخير لك. ولم يكن يطرح عليها الأسئلة ولم يكن معهما أحد، بل كانت هي التي تحاوره وتسأله، فكيف يكون السؤال الأخير له؟ وقال آخر: "بهذا أعزاءنا المشاهدين نصل إلى نهاية نشرة الأخبار قدمناها لكم من قناة..."، فقدم لنا هذا الأحمق نهاية النشرة أما النشرة فما زلنا بانتظار نهايتها. ولكنه في تقليد القرود أسقط اسم الموصول (التي)، كما يُسقط معظمهم ميم (مِن المدغمة) من (مما)، كالخراف والنعاج. (ماءءء أدى ... ماءءءء أسفر... ماءءء أوقع...).
مهازل وحماقات كثيرة منها الحديث اليوم في الإعلام العربي وغيره من المجالات التي تعتمد اللغة العربية وسيلة للتواصل عن "فرنسيين من أصول مغاربية" و"إرهابيين من أصول عربية" و"معتقلين من أصول مصرية"، وغير ذلك من تركيبات وتوليفات. والأصل في اللغة هو أسفل كل شيء وأسه وأساسه وأرومته. فكيف يكون للناس أكثر من أصل واحد؟ أوليس النسل كالشجرة ذات أصل وفروع؟ أصلها ثابت وفرعها في السماء؟ وهل رأيت شجرة ذات أصول متعددة؟ لا شك أن للترجمة الحرفية أثرها في الخيارات اللغوية عند المعاصرين العرب الذين يتتبعون الكلام الأصلي كلمة وحرفًا ونقطة. فلا يستطيعون القول بكل بساطة (فرنسيون من أصل مغاربي) مثلاً. ولكنهم يحرصون على موافقة العدد معدوده، فكل واحد له أصل فهي إذًا أصول، كما يزعمون، إلا في كثير من لغطهم ولغوهم فتسمعهم يقولون (عدد من دبابات الاحتلال توغلت في قطاع غزة) و(عُثرت على كميات كبيرة من الأسلحة) وغير ذلك مما لا يوافق العدد معدوده، عند هؤلاء العباقرة الذين يقلدون اللغات الأجنبية ويطبقون قواعدها على اللغة العربية كالقرود والمهابيل.
من أهم الأمور التي تغيب عن بال معظم الباحثين والمتخصصين والبشر عامة أن بإمكان الناس التحدث بلغتهم ولكن قلة قليلة منهم في أي جيل تستطيع الكتابة بها. هذه المقولة المقتبسة من حديث للشاعر الناقد الأميركي تي إس إليوت خص به اللغة الإنجليزية في معرض انتقاده للشاعر الإنجليزي الشهير لورد بايرون، لا تسري على جميع اللغات قاطبة فحسب، بل تنطبق بشكل خاص على اللغة العربية في عصر الإعلام الهزيل والفضائيات المستلبة والصحافة المعلبة. فلو نظرنا إلى ظاهرة الأدب العربي المعاصر، كما يحلو الحديث عن الظواهر عندهم هذه الأيام، لوجدنا أن معظم الذين يدّعون في الأدب والإنشاء مكانة لا يعدو كونهم صعاليك صغاراً في عالم الإنشاء واللغة — أساليبهم مقتبسة وعباراتهم منحولة ومصطلحاتهم منقولة. إن كتبوا كانت جملهم مهزوزة ومنطقهم ضعيفاً لا حبكة فيه ولا ترابط ولا تماسك. اختفت الراوبط والضوابط، وصار الأديب والصحافي والشاعر والسياسي يتفوه بكلام مضعضع البنيان ومجاز مقترض من لغات أخرى. فحق عليهم قول فيلسوف الشعراء:
بني الآداب غرتكم قديمًا زخارف مثل زمزمة الذبابِ
وما شعراؤكم إلا ذئاب تلصص في المدائح والسباب
فأساسيات اللغة و"أصولها" مفقودة عندهم وجل ما يكتبون مترجم مباشرة أو ممضوغ ومجتر! ثم تقوم لجان الأدب والشعر والإبداع بخلع الألقاب والجوائز والهدايا عليهم. فهاكم أديبة مكرمة تقول لنا عن نجيب محفوظ: طوى رأسه ومات. ولم تسأل تلك اللجان الحمقاء كيف يطوى المرء رأسه، كأنه ورقة ملفوف؟