الترجمة والحضارة 11.6.2004 5:08 PM
المصدر: اخبار الخليج - 11/06/2004
بقلم: عبدالله خليفة
عقدت في مقر أسرة الأدباء والكتاب في مساء السابع من يونيو ندوة عن تجربة المترجم البحريني مهدي عبدالله، التي تحدث فيها عن مساهمته في حقل الترجمة، وكيف تعلم اللغة الإنجليزية، ثم تكلم عن اشتغاله في حقل الترجمة بها، سواء من خلال ترجمة مواد سياسية واجتماعية تتعلق بالتاريخ البحريني أو ترجمة مواد أدبية كثيرة خلال العقود الأخيرة. وقبل أن نتطرق إلى الملاحظات عن ترجمة الأخ مهدي، لا بد من البحث في تاريخ الترجمة العربية عموماً، وماذا كان يعبر عنه هذا التاريخ ودلالاته الفكرية. فلقد مرت الترجمة العربية بثلاث مراحل تاريخية كبرى، الأولى ظهرت منذ مشروع المأمون بترجمة الآثار الفكرية الكبرى اليونانية إلى العربية، التي تشكلت تحت مظلة دينية خاصة،
فاسُتبعدت منها الآثار الأدبية والروائع المسرحية والملحمية الإغريقية بدعوى انتمائها لمرحلة وثنية، وتم الاقتصار على الآثار الفلسفية والعلمية ورفض الأدب والفن، ولم تخلُ المرحلة من أخطاء جسيمة إضافة إلى توجهها الديني الضيق الأفق، حيث نــُسب إلى أرسطو كتاب لم يكتبه، وترجم على أنه من تأليفه، مما أدى إلى وقوع فهم فكري كبير مغلوط خيّم على العصر الفكري العربي وقتذاك. أما المرحلة الثانية فتبدأ من أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، حين اندفع المسيحيون العرب بداية لترجمة الكتب الدينية، وهم من الأكليروس، ثم تبعهم العلمانيون المسيحيون السوريون بترجمة الآثار الفكرية والأدبية الغربية الرومانسية والمغامراتية الحافلة بالتشويق والإثارة. وحين انتقل المثقفون السوريون إلى مصر في القرن التاسع عشر فإنهم حركوا الأجواء الثقافية المصرية، وبدأت أكبر النهضات العربية في الترجمة، ولكن اتسمت الترجمات في هذا العصر بأنها ترجمات غير أمينة وغير دقيقة، وتجاوز فيها المترجمون النصوصَ الأصلية، وقاموا بتغييرها وتشويهها، فخلطوا بين الأنواع الأدبية، وبدلوا وحذفوا، وأضافوا، استجابة لأذواق جمهور القراء المتعطش للإثارة والمغامرات. ولكن هذه المرحلة تصدى لتجاوزها كبار الأدباء العرب في نهاية هذه المرحلة، وأشهرهم: طه حسين وعباس العقاد وغيرهما، الذين خاضوا معارك كبيرة في سبيل نقاوة الترجمة ودقتها وأمانتها وموضوعيتها. وكانت أشهر هذه المعارك مع مصطفى لطفي المنفلوطي الذي لم يكن يعرف أي لغة سوى العربية ولكن عُد من كبار المترجمين ! وذلك بسماعه تلخيصات لكتب غربية ثم النسج على رائحتها، أو الأستاذ الشاعر حافظ إبراهيم الذي ترجم رائعة فكتور هيجو الملحمية (البؤساء) في كتاب صغير، وهي الرواية التي ترجمها بعد ذلك منير بعلبكي في عدة أجزاء! (راجع تفاصيل ذلك في كتاب الدكتور عبدالله إبراهيم: السردية العربية الحديثة). بعد تلك المرحلة الضبابية في الترجمة ظهرت المرحلة الأكثر أمانة في الترجمة التي توسعت إلى فروع المعرفة كافة، وهي المرحلة الثالثة، التي قادها طه حسين، ومشروعاته لترجمة الآداب الغربية بصورة دقيقة. ولكن تبقى هذه المرحلة وآثارها مرهونة بمدى ثقافة وإبداع المترجم في اللغتين، حيث سادت الترجمة الحرفية الدقيقة ولكن الخالية من توهج النص الأصلي وقراءة أعماقه الدفينة، وحرارته وظلاله ورموزه. ونستطيع أن نعد ترجمات الأخ مهدي عبدالله أنه يغلب عليها طابع المرحلة الثالثة، مع بقايا من المرحلة الثانية، كما تمثل ذلك في ترجمته المختارة لفصول وفقرات من كتاب بلجريف التي انتقيت بسبب ظروف سياسية، لكنه اتبع أمانة الترجمة الحرفية في بقية تجربته، وإن لم يصل إلى ما يُسمى بالترجمة الإبداعية، حيث يقترب المترجم من وهج وخصوصية اللغة للكاتب المترجم له، بحيث تتبدى كل ترجمة حاضنة للغة خاصة وشخصية متفردة، ففي هذه الترجمة تسود عملية النقل اللغوي ومعاني النص المترجم أما روح النص في اللغة الأصلية فتحتاج إلى إبداع خاص كما يتمثل ذلك في ترجمات جبرا إبراهيم جبرا وغيره من المترجمين العرب الكبار.