SADOUN Admin
عدد المساهمات : 1177 تاريخ التسجيل : 03/04/2009 العمر : 37
| موضوع: متى ندرس المصطلحية بالجامعات العربية بشكل منتظم ورسمي؟ الإثنين 14 مايو 2012 - 23:58 | |
| متى ندرس المصطلحية بالجامعات العربية بشكل منتظم ورسمي؟الدكتور خالد اليعبودي
[كلمات مفاتيح: مصطلح/مفهوم- مصطلحية- مصطلحاتية- بنك مصطلحي- مصطلحية حاسوبية]
تقديم:
أمام الأزمة الحادة لفوضى المفاهيم والمصطلحات، وبالنظر إلى الإقبال المتزايد على استهلاك الوافد من العالم الغربي؛ سواء في صيغة سلع مصنعة موسومة بمسميات أعجمية، أو في صيغة مفاهيم مبطنة بحمولات وخلفيات شتى، أصبحت الحاجة ماسة إلى تأصيل مصطلحية عربية، قادرة على مواجهة هذه التحديات، ترمي مما ترمي إليه إلى الاستيعاب المتروي لمضامين المفاهيم المولّدة ومقاصدها، وخصوصيات نشأتها وسياقات استعمالاتها، في أفق بناء مصطلحية عربية دقيقة للمنظومات المفاهيمية في سائر الحقول المعرفية ( مع المزاوجة بين الترجمة والإنتاج الأصيل).
دواعي الرقي بالدرس المصطلحي:
إن التضارب الذي يخصّ تحديد "المصطلحية" جزء من التضارب الاصطلاحي المُعاين بالجهاز المفاهيمي للعلوم والتقنيات المدوّن باللغة العربية؛ هل نعتبر "المصطلحية" معجما لغويا خاصا، أو لغة خاصة، أو منهجا في الدراسة، أو مجرد إجراء تدويني للمنظومات المصطلحية وتقييسها؟ هل نسميها "المصطلحية" أو "المصطلحاتية"، أو "الدراسة المصطلحية"، أو "علم الاصطلاح"، أو "علم المصطلح"، أو "المعجمية الخاصة" (أو المتخصصة)، وكلها مقابلات للمفهوم الغربي "Terminologie" / "Terminology".
ولعل أبرز الإشكاليات المقترنة بالموضوع الذي ننظر فيه اليوم: - ما أوجه تداخل المصطلحية بباقي العلوم المرتبطة بها؟ خاصة منها اللسانيات. - من هو " المصطلحي"؟ وما دور اللساني في البحث المصطلحي؟ - هل نتوفر حقا على مصطلحية عربية مستقلة بإشكالياتها ومناهجها؟ - ما وضع الدرس المصطلحي بجامعاتنا العربية؟ وهل يرقى إلى التطور الذي شهده الدرس المصطلحي بالغرب؟ لكن بداية ما المقصود ب"المصطلحية"؟
في تعريف مفهوم "المصطلحية":
لعل أدق تعريف اطلعنا عليه بالدراسات المصطلحية العربية وأشمله لمفهوم "المصطلحية" هو تعريف المرحوم "سماعنة عبد الرحيم" (1999)، فهي في نظره "العلم الذي يعنى بمنهجيات جمع وتصنيف المصطلحات، ووضع الألفاظ الحديثة وتوليدها، وتقييس المصطلحات ونشرها" . وهو تعريف أقرب لفهم "المصطلحية" بالغرب حينما ارتقت إلى مرتبة "العلم" القائم بذاته، إذ يعتبر "دانيال كواديك"(1990)" المصطلحية": "العلم الذي يدرس المصطلحات ويبحث في طرق صياغتها، واستعمالاتها، ودلالاتها، وتطور أنساقها، وعلاقتها بالعالم المُدرك أو المحسوس" .
الكفاية العلمية للمصطلحية:
إن الناظر في أقانيم العلم الموضوعة بالتراث العربي الإسلامي، (والمتمثلة في: "الموضوع، والمبادئ، والمسائل، والغاية، والحد")؛ ستترجّح له عِلمية المصطلحية، بما أن موضوع المصطلحية (الحديثة) هو دراسة المصطلحات وجردها (في مسارد، ومعاجم ورقية ورقمية)، وتقييسها لتمييز صالحها من رديئها، ووضع مقابلاتها الملائمة لها شكلا ومضمونا في لغات أجنبية إذا كان المَقام مَقام مصطلحية متعددة اللغات. ومرتكزاتـُها الاعتمادُ على ضوابط دقيقة لوضع المسميات، وتبني مناهج إجرائية في معالجة المصطلحات (كالمنهج الوصفي، والمنهج التاريخي…. )، كما أن من غايات هذا العلم صياغة مبادئ الوضع المصطلحي، وتقييس المصطلحات بغرض توحيدها، وتوثيقها.. وحدّ هذا العلم ما عرّفناه به أعلاه.
واشترط المحدثون توفرَ ثلاثة عناصر أساسية ليصحّ اعتبار العلم قائما بذاته، وهي: المفهوم (المصطلح)، والقاعدة، ثم المنهج. وما المفهوم سوى المعنى العلمي البسيط المقترن بتسمية ليأخذ وضع المصطلح، والقاعدة العلمية هي تركيب نسقي من المصطلحات غايتها حل مسائل العلم، ويندرج في إطار المنهج نسق القواعد ذات القاسم المشترك. والحاصل سواء طبقنا معايير القدامى أو المحدثين أن "المصطلحية" علم قائم بذاته، لاسيما بعدما بلغ مرحلة الاستقلال عن علوم نشأ في أحضانها من قبيل: اللسانيات، وعلم التصنيف، وعلم المنطق، وعلم الترجمة، وباقي العلوم التي يرصد مصطلحاتها.
وأول تجليات استقلال المصطلحية كعلم مستقل بذاته عن باقي العلوم التي اقترنت به لعقود عدة: توفرها على رصيد مصطلحي خاص بها. ويعاني المتتبع لنشأة هذا العلم وتطوراته أن المصطلحية ظهرت في حلتها الحديثة أواسط القرن الماضي لتضطلع بوظيفة التثبّت من الاستعمال الدقيق للمصطلحات، ومع ذلك تكشف الإرهاصات الأولية التي سبقت النشأة الرسمية لهذا العلم عن إدراك نـُظار الفكر العربي الإسلامي بمحورية الأدوات الوصفية للعلوم (:المصطلحات)، على أنّ وعي تراثنا بهذه المحورية تجلى بالخصوص في المجال التطبيقي المقترن ببناء المنظومات المصطلحية وتعريف وحداتها الاصطلاحية، وذلك على حساب المجال النظري الذي ينظر في شروط بناء هذا العلم وموضوعاته وطرق البحث فيها.
تطور المصطلحية:
كان التداخل قائما على أشدّه بين المصطلحية ومجموعة من المفاهيم، من قبيل:"المدونة المصطلحية"(Nomenclature)، و"اللغة الواصفة"(Métalangage)، و"التسمية" (Dénomination)، كما ارتبط هذا العلم فيما مضى بعلوم عدة، ك:"اللسانيات"، وعلم "الترجمة"، و"علم التوثيق"، و"علم التقييس"، غير أنه في الوقت الراهن أصبح من الممكن التمييز بينها .
وقد عبر مفهوم "المصطلحية" بالغرب أربع مراحل أساسية قبل أن يستقر في أذهان المصطلحيين كعلم مستقل بموضوعه ومناهجه: - في المرحلة الأولى: أخذ لفظ "المصطلحية" دلالة استهجانية، بإحالته على الغموض والالتباس الدلالي ببعض الكلمات. - في المرحلة الثانية: دلّ فيها هذا المفهوم على معنى "مجموع اصطلاحات متن ما". - وفي المرحلة الثالثة: اختص بالدلالة على "فن جرد المصطلحات ومعالجتها". - وفي المرحلة الرابعة: ارتقى مفهوم المصطلحية إلى مرتبة العلم القائم بذاته، بعد توفره على مفاهيم تخصه وقواعد مرتبطة بنسقه، ومناهج تدرَس بمقتضاها الأنساق الاصطلاحية.
وقد أدى نموّ وتيرة الأبحاث المصطلحية وإنجاز المدوّنات والمعاجم والبنوك الاصطلاحية إلى تطور هذا العلم، فتولد من صلبه جنينان في فترتين متلاحقتين:
- أولاهما: "المصطلحاتية" (La terminographie)، وهي نشاط تطبيقي يرتكز أساسا على جرد المصطلحات، وبناء المعطيات، وتدوينها، ونشرها. - ثانيهما: "المصطلحية- الحاسوبية" (La terminotique)، وهي قران تمّ بين "المصطلحية" و"الحاسوبية" بمباركة "المصطلحاتية"، للعمل على تخزين المصطلحات، واستثمار معطيات البنوك الاصطلاحية، والتعريف بطرق قراءة الجذاذات الاصطلاحية والرجوع إليها بتوظيف الأداة الحاسوبية.
ونتيجة استثمار آليات التحليل اللسانية، وتوظيفِ البُعد الاجتماعي؛ عرف العقد الأخير تولـّد أجنة أخرى من صلب العلم الأم (:المصطلحية)؛ من قبيل: "المصطلحية النصية" (Terminologie textuelle)، و"المصطلحية السياقية" (Terminologie contextuelle)، و"المصطلحية الاجتماعية" (Socioterminologie).
وما من شك في أن توبة المصطلحية الحديثة، وعودتها من جديد إلى أحضان اللسانيات في بعديها المعجمي والدلالي بالأساس أدى إلى بروز دراسات مصطلحية تولي العناية القصوى لمعاني المصطلحات وسياقاتها داخل النصوص العلمية، وتقف عند أبعادها الاجتماعية والتداولية.
واقع تدريس المصطلحية بالجامعات والمعاهد العلمية الغربية:
تعدّ كندا من الدول الغربية الرائدة التي انتبهت منذ عقود عدة إلى أهمية العلم المصطلحي في ضبط المفاهيم، وإلى أثره الجليّ في تطوير العلوم والتقنيات، فعملت على تأسيس أقسام علمية مهمتها تدريس المصطلحية والتدريب على تطبيقاتها، والراجح أنّ الوضع اللساني لهذا البلد المزدوج اللغة [فرنسي-إنجليزي] كان من أسباب السبق إلى إدراج هذا التخصص العلمي بالجامعات والمؤسسات اللغوية الكندية، إضافة إلى استهداف تخريج مصطلحيين ومصطلحاتيين مهمتهم الأساس بناء أنساق اصطلاحية تخضع لمقاييس دقيقة بمعية المتخصصين في شتى الميادين المعرفية، وتكوين مترجمين أكفاء، ومن أجل هاته الغايات النبيلة دُرِّست المصطلحية منذ أزيد من عقدين لطلاب الباكلوريا (بمعدل 90 ساعة في السنة)، وللطلاب الراغبين في الحصول على الإجازة في اللسانيات التطبيقية (Marthe Faribault (1988)).
وقد اهتمّ العديد من الدارسين الغربيين بتحديد محاور الدرس المصطلحي في رِحاب الجامعات والمعاهد العليا ، وجعلوا من أهمّ موضوعاته:
- التوثيق ورسم قواعد تحرير الجذاذة المصطلحية. - الجرد والتصنيف المصطلحيين، وتحديد خصائص التعريف المصطلحي. - والتقييس المصطلحي.
ونشير هنا أيضا إلى منجزات "مديريات الأعمال المصطلحاتية" بوحدة التكوين والبحث في اللغـات الأجنبيـة التطبيقيـة بجامعـة "رين 2" (Renne2)، وقد تزامن ذيع صيتها مع بداية تدريس المصطلحية برحاب هذه الجامعة نهاية الثمانينات من القرن الماضي. وتدَرَّس النظرية العامة في المصطلحية (General theory of Terminology) لصاحبها "فوستر"(wuster) بالعديد من الجامعات (إضافة إلى فرنسا، وكندا) بالنمسا، وتشيكوسلوفاكيا، والدانمارك، وألمانيا، وروسيا، والجمهوريات المتاخمة لها (التي كانت منضوية في الاتحاد السوفياتي سابقا). وتعددت الورشات التدريبية بالجامعات الغربية بغرض تكوين مصطلحيين، فأصبحت هذه الورشات جزءا لا يتجزأ من البرامج الجامعية، وهي تلقى أحيانا في إطار مؤتمرات خاصة، وقد تبثّ مباشرة عبر الإنترنت، ويستفيد منها كل من اللسانيين والمعجماتيين، والمترجمين، وخبراء اللغات اللاتينية الحديثة.
(انظر نموذجا من مقررات تدريس المصطلحية ببعض الجامعات الغربية بملاحق هذا المقال).
واقع تدريس المصطلحية بالجامعات والمعاهد العلمية بالأقطار العربية:
على الرغم من توصيات الندوات والمؤتمرات المصطلحية العربية العديدة؛ فإنه لم يتم الشروع بعد في تدريس "علم المصطلحية" بصفة منتظمة ورسمية مقررة من قبل وزارات التعليم العالي. فالغالب أنّ بنود المصطلحية، وآليات التوليد المصطلحي تدرس في سياق درس عام يخصّ التعريب (تجربة الملك سعود بالسعودية) ، أو الترجمة (معهد بورقيبة للغات الحية بتونس، ومدرسة الملك فهد للترجمة بطنجة المغربية).
وفي هذا المسار، وجدنا مهنة العالم المصطلحي غير محددة بشكل واضح في أغلب الجامعات العربية والمؤسسات المصطلحية، كما تخلو برامج وزارات التعليم العالي بالأقطار العربية من منظور جلي إزاء تكوين مصطلحيين وتدريبهم على الدراسة المصطلحية والإنجاز المصطلحاتي. وغنيّ عن الذكر أن المختصين أعضاء المجامع اللغوية اكتسبوا مراسهم المهني بمجهوداتهم الشخصية دون حاجة إلى دراسة أكاديمية ل "المصطلحية" و"الترجمة".
ونسجل في هذا المساق أن الدعوة الجادّة إلى تعميم تدريس المصطلحية بالجامعات العربية ترجع إلى مستشرق روسي هو "كيفورك ميناجيان" منذ أزيد من أربعة عقود، بعد نجاح هذه التجربة بكلية الهندسة بجامعة الصداقة بموسكو. فقد أدرج هذا المستعرب مادة "المصطلحية" ضمن مقررات هذه الجامعة بمعدل 24 ساعة لطلاب السنة الأخيرة، مع دراسة مجموعة المصطلحات العلمية كل بحسب تخصصه وفرعه.
[انظر برنامج تدريس المصطلحية بجامعة موسكو بالملحق رقم 2 نهاية هذا البحث]
ولا نستغرب هذا السبق إذا تذكرنا جميعا جهود المستشرق الألماني "فيشر" في بناء "المعجم التاريخي للغة العربية"، وتوقف هذا المشروع الهام بارتحاله من مصر، ومماته.
إلا أن بعض الجامعات العربية بدأت تستجيب في العقد الأخير للدعـوات الرامية إلى تأسـيس أقـسام خاصة (أو شعب) للتنسيق المصطلحي، ولقد شهدت جامعة سيدي محمد بن عبد الله إقبالا كبيرا على توجيه الأساتذة للطلاب الباحثين إلى النظر في الرصيد الاصطلاحي الوافر بالتراث العربي الإسلامي، ورصْد ما شهدته النهضة العربية الحديثة من طفرات اصطلاحية بغية جرد مفاهيم العلوم والفنون، وما تضمنته المعاجم اللغوية من كلمات مستحدثة، غير أن أعمالهم في هذا المجال لم تتجاوز إنجاز بحوث الإجازات ودبلومات الدراسات العليا دون أن تتعدّاها إلى تخصيص أقسام مستقلّة لتعليم المصطلحية.
إطلالة على تجربة جامعة محمد بن عبد الله بفاس المغربية:
نهاية المطاف، كان لا بدّ من الإقرار بضرورة تخصيص أقسام مستقلة لهذا العلم الأصيل/الجديد بالجامعات العربية، فشرعت كل من كلية الآداب ظهر المهراز، وكلية الآداب سايس بداية هذه الألفية الثالثة في تدريس بنود "المصطلحية" لطلبة الإجازة، وكانت أهم محاور الدرس المصطلحي برحاب هذه الجامعة:
- المصطلح (المفهوم والمكونات) - المصطلحية والمصطلحاتية (الأسس المعرفية) - قضايا المصطلح اللغوي (جهود الأقدمين) - آليات التوليد المصطلحي
( انظر البرنامج الكامل لتدريس المصطلحية بهذه الفصول في الملحق الثالث المرفق بهذا البحث)
وقد شُـُرِع هذا الموسم في تدريس ماستر جديد لطلبة الدراسات العُليا بكلية الآداب ظهر المهراز بهذه الجامعة، خـُصِّصَ "للمصطلحية وتنمية اللغة"، وقد أخذنا على عاتـقنا تخصيص 36 ساعة لتدريس مادة "المصطلحاتية" (La terminographie) لطلبة الفصل الثاني بهذا الماستر. (انظر تفصيلات هذه المادة ضمن الملحق الرابع من ملاحق البحث).
والراجح أن واقع التعريب بأقطارنا العربية يقتضي من وزارات التعليم العالي بالأقطار العربية برمجة "درجة الإجازة في المصطلحيات" تستغرق ثلاث سنوات يُدرَّس خلالها مبادئ العلم المصطلحي بالتركيز بداية على إنجاز شجرات مجال كلّ الميادين المعرفية، وتحرير الجذاذات الاصطلاحية، وضبط أوجه التوثيق، ليتسنى بعدئذ التخلص من النظرة السائدة لدى الكثيرين عن "المصطلحية"، والقائمة على حفظ القوائم الاصطلاحية وصياغة المقابلات القائمة بينها في لغتين أو عدة لغات. ويتطلب التأصيل المصطلحي كذلك إلقاء محاضرات على طلاب هذا التخصص المستحدث في مجالات الحاسوبية، واللسانيات العامة والتطبيقية (المعجمية والمعجماتية والدلالية ولغات الأهداف الخاصة "LSP")، وتلقينهم أوليات الرياضيات والإحصاء، وعلم المعلومات .
وتجدر الإشارة إلى أنّ تطوّر العمل المصطلحي العربي لا يرتهن بتلقين مبادئ "المصطلحية" في الجامعات العربية فحسب، وإنما يتوقف أيضا على تخصيص برامج تدريبية من قِبَل علماء اللسانيات التطبيقية، والمعاجميين (Lexicographes) وواضعي المصطلحات، وذلك من أجل تكوين مزدوج من شأنه أن ينتج اختصاصيين في المصطلحيات، ومصنفين للأعمال المصطلحاتية، ومترجمين يشتغلون بترجمة هذه الأعمال المصطلحية ذاتها وترجمة الوثائق النفيسة في شتى المعارف والتخصصات.
وإذا كان التهانوي لم يجد أدنى عناء في تدوين الرصيد المفاهيمي الزاخر في "كشاف اصطلاحات العلوم والفنون" نظرا لمحدودية أصناف هذه التخصصات في عهده؛ فالأكيد أنه لن يتأتى بناء مصطلحيات العلوم والفنون في العصر الراهن دون استثمار أمثل لبرمجيات حاسوبية عربية متطورة، ودون تقييس ناجع لهذه المنظومات المصطلحية.
وباب التقييس المصطلحي باب ذو شجون، إذ أسال الكثير من المداد، بتداول العديد من الباحثين في شأن الجدوى من التوحيد المصطلحي؛ إلى درجة ارتأى بعض الدارسين أن هذه الإشكالية تصرفنا عن النظر في قضايا المصطلحية الملحة، وأنْ ليس هناك من سبب يدعو إلى القلق على مصير المترادف والمشترك من المصطلحات العربية ، غير أننا نرى أن سلبيات استعمال مصطلحات عدة للمفهوم الواحد بادية بجلاء في مداولات أهل الاختصاص بمحافل الندوات والمؤتمرات العلمية، كما تتوضح أيضا في الخلط الذي يحصل في أذهان الطلاب في محاولة استيعابهم لدلالات المصطلحات وربطها بالمفاهيم موضوعات التسميات.
ولقد غدا محور التقييس من أول الأولويات في العمل المصطلحي العربي خلال العقود الأخيرة، وذلك لما اتّسَمَ به الوضع المصطلحي من طابع تفرّدي، إلى درجة أصبح التفرّد المصطلحي سمة للنبوغ والإبداعية عند المثقف العربي، ولا شك أن تراث الجاهلية المفاخِر بكثرة المترادفات والحريص على حفظها وروايتها ساهم في الوصول إلى هذا الوضع المتردّي، مما استدعى تدخّل بعض رواد المصطلحية الغربية في المنتديات الثقافية العربية للدعوة إلى تظافر الجهود من أجل توحيد المصطلحيات العربية وتقييسها، وأحيل هنا إلى مشاركة "هلموت فيلبر" في ندوة مصطلحية بتونس الشقيقة، ودعوته إلى «تنظيم التعاون وتنسيق العمل المصطلحي مع اتِّباع المبادئ المصطلحية والطرائق المصطلحية السديدة» فذلك «هو السبيل إلى حلّ مشكلة المصطلح» .
والمعلوم أنّ المصطلح وضع واستعمال، والاستعمال معيار أساسي للحكم على صلاحية المصطلح ، فلا حياة لمصطلحات تقبع بين دفـّات المصنفات والمعاجم.
أنماط الدراسات المصطلحية العربية الحديثة:
أشرنا في مناسبات سابقة أن الدرس المصطلحي العربي الحديث والمعاصر يتجلى في خطابين:
- خطاب مصطلحي كلاسيكي: من أهم انشغالاته التأكيد على الدور الريادي للغة العربية وتراثها الاصطلاحي التليد. - خطاب مصطلحي معاصر: يرتكز على المبادئ النظرية والمنهجية التي استحدثتها المصطلحية الغربية في إطار النظريتيـن العامة والخاصـة للمصطلحيـة، وفي إطار النماذج الدارسة لمميزات اللغة الخاصة وشبكاتها الدلالية.
وقد أنتج هذا الخطاب الأخير مصطلحيتين بينهما تجاور وتكامل:
- «المصطلحية العربية»: المكتوبة باللغة العربية أساسا، وتعرض لمُنجزات المصطلحية الغربية. - «مصطلحية العربية»: المكتوبة باللغة العربية أو بغيرها من اللغات الأجنبية، وتعنى بدراسة الأجهزة الاصطلاحية للخطابات العلمية العربية في أنساقها المختلفة، بتطبيق مبادئ النظريات المصطلحية الحديثة، أو بتقديم برامج مصطلحية تقنن عمليات التوليد والتقييس المصطلحي (كبرنامج GENTERM) .
وقد تأكّد لنا من التراكم الحاصل في الدراسات المصطلحية المنبثقة عن الندوات والمؤتمرات وحلقات التعريب والبحوث اللسانية الأكاديمية أنّ "مصطلحية العربية" لا زالت جنينا فتيّا في مستوَيَيْها التنظيري والتطبيقي على السواء، لم تتقوّى دعائمها بعد، ذلك أنّ منهجيات هذه الخطابات لا ترقى إلى مرتبة النظريات المصطلحية الشاملة، نتيجة تغييب جوانب التدريب والتقييس الاصطلاحيين ، إضافة إلى تفادي العديد من المجامع اللغوية والمصنفين للمعاجم الاصطلاحية مسألة التعريف المصطلحي ، مع أننا لا ننكر الجهود الكبيرة التي بُذِلَت ولا زالت تبذل في سبيل الرقي بالأبحاث المصطلحية في مستوييها النظري والتوثيقي (انظر أبحاث: "مصطفى الشهابي"، "الشاهد البوشيخي"، "علي القاسمي"،" رشاد الحمزاوي"،" توفيق الزيدي"،" إبراهيم ابن مراد"، "ادريس نقوري"، وآخرون).
واقع المصطلحية-الحاسوبية العربية:
وبخصوص العمل المصطلحي الحاسوبي بأقطارنا العربية، فقد شهد العقد الأخير تطوّرا ملموسا في هذا المجال، وذلك بفضل استثمار تقنيات الحاسوب واستعمال أدوات برمجية متطورة تسمح بإنجاز قواعد معطيات مصطلحية، واستغلالها في العديد من الميادين المعرفية. ونسجل في هذا المضمار عدم التزام بُناة البنوك المصطلحية العربية -القليلة العدد- بتعهّداتهم فيما يتعلق بالنشر المفصّل لمنجزاتهم في مجال المعجم الآلي على الأقراص المُمَغنطة أو على مواقع شبكات الإنترنيت. كما نعاين بمرارة ضعف التنسيق والتعاون المثمر بين سائر البنوك العربية مما يؤدي إلى تكرار الجهود. (بنك باسم، بنك معربي1987 (معهد الدراسات والأبحاث للتعريب)، بنك "قمم" (قاعدة المعطيات المصطلحية) "1986" (للمعهد القومي للمواصفات والملكية الصناعية بتونس)، بنك مجمع اللغة العربية الأردني 1988 (عمان)).
وإذا علمنا مدى أهمية توفير شبكة تربط بين البنوك المصطلحية العربية في تبادل البيانات والخبرات ومصادر المعلومات يبقى من اللازم العمل على تفعيل مشروع الشبكة العربية للمصطلحات (ARABTERM) الذي أعدّه الخبراء التونسيون ولم يحن بعد وقت تشغيل آليات الشبكة.
على سبيل الختم:
لا ريب أن المصطلحية العربية لا زالت في حاجة إلى المزيد من التطوّر كي ترقى إلى مستوى تحديات الألفية الثالثة، فتـقيم رباطا وثيقا بين العلم، التقنية، والإنتاج، وتحرص (إضافة إلى وصف المصطلحيات وتقييسها وتدوينها) على تحليل السياقات الاصطلاحية المختلفة. والأكيد أنّ المعاهد المصطلحية العربية ومن بينها معهد الدراسات المصطلحية بفاس المغربية، ومنتدى المصطلحية، وجمعية المعجمية العربية بتونس تبذل قصارى الجهود لتأصيل الدرس المصطلحي العربي، ويبقى من اللازم الإسراع بتضمين برامج وزارات التعليم العالي بالأقطار العربية "تخصص المصطلحية" ما يتطلبه من عناية خدمة لهويتنا الحضارية، وتيسيرا لتعريب يراعي خصوصية العربية، وينهل من غنى ثروتها اللفظية.
ملاحق البحث:
ملحق رقم 1:
نماذج من مقررات تدريس المصطلحيات: بجامعة كوبنهاغن (عن بيشت ودراسكاو 2000)
- عرض لبنك من بنوك المصطلحات (ساعة)؛ -التقييس والشبكة المصطلحية (ساعة)؛ - التوثيق المصطلحي (ساعة)؛ - الرسائل العلمية المصطلحية: أنماطها وطرائقها - معلومات عامة (ساعة)؛ - تمارين على مشروعات(ساعة)؛ - مشروع تقني (الاقتصاد والقانون ((ساعة)؛ - مقدمة في المصطلحيات (ساعتان)؛ - المفهوم والتعريف (ساعتان)؛ - تحليل التعريف (ساعة)؛ - العلاقات بين المفاهيم والمنظومات المفهومية (ساعتان)؛ - إعداد منظومة مفهومية - تمارين على ذلك (ساعتان)؛ - المصطلح وصياغته والمنظومة المصطلحية (ساعتان)؛ - تمارين (ساعتان)؛ -المعجمية وبنوك المصطلحات (ساعة).
ملحق رقم 2:
برنامج تدريس المصطلحية بجامعة موسكو نهاية الستينات من القرن الماضي
|
|