حركة الترجمة ودورها في بناء الحضارة :
أظهر المسلمون في بناء حضارتهم إهتماماً كبيراً بحركة الترجمة، وابدوا رعاية فائقة للثقافات والعلوم المتنوعة التي وجدوها في غرب آسيا، وامتازت الحضارة الإسلامية بالنقل من الفارسية والسريانية واليونانية والهندية والصينية إلى العربية، وكان بنو أمية على قسط وافر من الحكمة وبعد النظر ما جعلهم يتركون المدارس الكبرى المسيحية أو الصائبة أو الفارسية قائمة في الإسكندرية وبيروت وحران ونصيبين وجنديسابور، فاحتفظت هذه المدارس بأمهات الكتب في الفلسفة والعلوم، ومعظمها في ترجمتها من السريانية، وسرعان ما استهوت هذه الكتب المسلمين العارفين باللغتين السريانية واليونانية، ولم يلبث أن قام بترجمتها إلى العربية جماعة من المسلمين، فضلاً عن اليهود المسلمين. ، وكانت طريقة السريان أن ينقلوا الكتاب اليوناني إلى لغتهم السريانية، ثم يترجموه بعد ذلك من السريانية إلى العربية، وهكذا أصبح السريان أعظم حلقة للاتصال بين الثقافة الهيلينية والإسلام، واستمرت الحركة العلمية وحركة الترجمة إلى العربية في العصر العباسي عندما ربط المسلمون بين تراث اليونان وعلوم الفرس والهنود والصينيون، مما جعل اللغة العربية أداة العلم والمعرفة التي تعبر عن أقصى ما بلغته الحضارة الإنسانية في العصور الوسطى من سمو ورفعة. وقد تمكن العرب المسلمون من ترجمة كتب أرسطو وأفلاطون الفلسفية، وجالينوس الطبية، علاوة على مجموعة من الكتب الفارسية والهندية. وهكذا تمكن طلاب المعرفة وبناة الحضارة من المسلمين أن يهضموا ما أنتجه اليونان في سنوات طويلة .
وهكذا لم يعد أمام الغرب الأوربي سوى الترجمة من العربية إلى اللاتينية، وزيادة على ذلك فقد وضع علماء المسلمون شروحاً لفلسفة أرسطو كما فعل ابن رشد واهتم بها علماء الغرب .
أما أهم مراكز الترجمة عن العربية إلى اللاتينية فكانت مركزين، الأندلس وصقلية، والواقع أن الأندلس هو المركز الرئيس للترجمة من العربية إلى اللاتينية، فاتجه إليه كثير من أعلام النهضة الأوربية في القرن الثاني عشر يطلبون الإرتواء من فيض الحضارة الإسلامية في مختلف العلوم والآداب. وقد نشطت حركة الترجمة عن العربية في برشلونة وليون وطليطلة، والتي أسس رئيس أساقفتها مكتبة كبيرة للترجمة عن العربية إلى اللاتينية ، وقام (رديرن الشستري) بترجمة القرآن إلى اللاتينية لأول مرة كما ترجمت كتب كثيرة من العربية في العلوم والفلك ورياضيات الخوارزمي والكمياء والطب .
ولا ريب أن المسلمين بتسامحهم العظيم مع الأجانب (غير المسلمين) أتاحوا لهذه العناصر فرصة طيبة للتتلمذ عليهم والإفادة منهم حتى قال أحد الكتاب الأوربيين:"إن الحضارة الإسلامية تمت بسبب تسامحها إزاد العناصر الأجنبية" .
أما صقلية فقد أسهمت هي الأخرى في حركة النقل عن العربية في وقت بناء الأوربيين حضارتهم الحالية، وساعد على صقلية ذلك موقفها الاستراتيجي الجغرافي بين أوربا وإفريقيا، ثم احتفاظها بنسبة كبيرة من سكانها المسلمين في عصر النورمان الذين خلفوا المسلمين في حكم الجزيرة.وقد ترجم في صقلية الكثير من الكتب الإسلامية، ومن أبرز مترجميها اليهودي (عشر فرج) من أصل صقلي، ترجم الكثير إلى اللاتينية .
وهكذا نرى أن الترجمة أسهمت في إثراء الحضارة الإسلامية، وأشعلت شعلة لا تنطفي لرواد الحضارة وبناتها، وذلك في عصر الأمويين والعباسيين، كما نرى أن أساسها الذي ارتكزت عليه الحضارة العائلة (الأوربية الحديثة) هي الترجمة من العربية إلى لغتهم، مما مهد الطريق أمامهم للوصول إلى موقعهم الحديث.