المنظمة العربية للترجمة : المؤتمر العربي الأول للترجمة : النهوض بالترجمة
(بيروت ، 28 و 29 كانون الثاني 2002)
أود أن أنبه، قبل أن أبدأ بالتعقيب على ورقة الأستاذ الطيب البكوش، إلى أنني لست من المتخصصين في علوم اللغة، وإنما أنا مؤرخ تركز بحثي في السنوات الأخيرة على دراسة الفكر العربي في القرنين التاسع عشر والعشرين في تصديه لإشكالية النهضة، وفي نطاق اهتمامي بهذا الموضوع، الذي توج بإصدار كتاب عن "رهانات النهضة في الفكر العربي"، واجهت مسألة اللغة أو بالأحرى إشكالية تحديث اللغة التي برزت في القرن التاسع عشر، بوصفها واحدة من إشكاليات النهضة العربية الحديثة، وبقيت مطروحة بحدة في القرن العشرين وحتى اليوم لأن مشروع النهوض المجتمعي الذي احتضنها لم يُستكمل. ومن جهة أخرى ، فإن عملي في حقل الترجمة قد ساعدني على مقاربة – ولا أقول الغوص في – بعض المشاغل اللغوية. ففي خضم تجربة الترجمة، ولا سيما في هذه الأيام حيث أنا منكب على تعريب كتاب كورنيلوس كاستورياديس “Linstitution imaginaire de lasociete” Paris, Leseuil,1975. الذي صدر في منتصف سبعينات القرن العشرين، استوعبت، من خلال معاناة شديدة واجهتها لدى البحث عن مصطلحات عربية تعبر عن المعنى الدقيق للمصطلحات الفرنسية، ما كان قد رمى إليه بطرس البستاني حينما أشار، قبل قرن ونصف القرن تقريباً، إلى " أن كثرة المترادفات في العربية ليست دليل غنى لأنها لا تفيد زيادة في المعاني التي هي المقصود الأصلي من اللغات، واللغة التي فيها ألفاظ كثيرة لمعنى واحد وهناك معان كثيرة لا ألفاظ للتعبير عنها هي في الحقيقة فقيرة لا غنية". كما أن المعاناة ذاتها في البحث عن العبارات القادرة على نقل أفكار خطاب كاستورياديس الغربي إلى العربية، جعلتني أتوقف أمام بعض الاستخلاصات التي توصل إليها من أسماهم هشام شرابي بالنقاد العرب الجدد، ومنها أن لغتنا "التي تفضل الكتابة الأدبية على الكتابة العلمية والخطابة على النص المكتوب والكلام على الكتابة" قاصرة عن "سبر أغوار النص الثقافي الأجنبي وفهمه من الداخل" ، وأن اكتساب المهارة اللغوية لا يكفي وحده إن لم تتوفر "القدرة على الفهم العميق للسياق الحضاري للغة" ، وأن "المعرفة العربية الحالية تعمل على هامش المعرفة الغربية لا في داخلها، بما أنها تابعة لها ومحددة بها".
والآن، وبعد هذا التنبيه، أقول إن الترجمة هي ، بالنسبة لي، أداة تفاعل حضاري، يتم اللجوء إليها، عموماً، بهدف التعرف على "الآخر" والتواصل مع ثقافته وحضارته، وقد كانت، في التجربة العربية، وسيلة من وسائل وعي إشكالية التقدم والتأخر والبحث عن الأسباب التي ضمنت للآخر تقدمه. ففي سياق المقارنة بين اللغة العربية ولغات الأمم التي قطعت شوطاً على طريق التقدم الحضاري، طُرحت مسألة اللغة، بوصفها مسألة من مسائل التخلف المجتمعي، وتبلور الوعي بضرورة تحديث اللسان العربي وجعله مواكباً للعصر وعلومه من خلال عملية ثلاثية الأبعاد تستهدف إيجاد المصطلح وإغناء العبارة وتمثّل الفكرة.
إن تعقيبي سيتركز ، في الأساس، على السؤال المركب الذي طرحه الأستاذ البكوش وهو: ما هي القضايا اللسانية العربية التي تسعى الترجمة إلى حلها ? وهل نحن إزاء إشكالية واحدة تتجدد أم إزاء إشكالية مغايرة حاضراً لما حدث ماضياً؟ وبهدف الإجابة عن هذا السؤال، رجع الأستاذ البكوش إلى تاريخ حركة الترجمة، وتوصل إلى أن وظيفة الترجمة قديماً وحديثاً، ظلت واحدة مبدئياً، لكن ظهرت فوارق هامة تمثلت في أن العرب قديماً أقدموا على تعريب معارف متكاملة فتمثلوها سريعاً ثم تجاوزوها بالشرح والنقد، في حين أنهم في عصر النهضة الحديثة أقدموا على تعريب معارف أوسع وهي في حالة مد واتساع، وذلك قبل أن تتعثر حركة التعريب مع الاحتلال الاستعماري وتعجز حركات التحرر عن تدارك النقص.
غير أنني، وخلافاً للأستاذ البكوش، أرى أن الفوارق ترجع إلى قضية أخرى أكثر أهمية من الاختلاف في طبيعة المعارف، ألا وهي قضية الموقف من التفاعل الحضاري ومن شرعية الاقتباس عن الآخر المتقدم والمناخات، السياسية والفكرية، التي أحاطت بذلك الموقف. فالترجمة لا تكون أداة فاعلة في المساهمة في حل مسألة اللغة إلا عندما يتوفر شرط قبول هذا التفاعل الحضاري، وبالتالي شرط قبول الاقتباس عن "الآخر". وبالرجوع إلى عصر الازدهار العلمي العربي الإسلامي يتبين لنا بأن ظهور الترجمة وتطورها قد تحققا في مناخ شاعت فيه الحرية الفكرية وشهد انتصار أنصار المعارف الحديثة، الذين شرعوا الاقتباس عن الأمم الأخرى ، على أنصار المعارف التقليدية، الذين وقفوا في وجه العلوم "الدخيلة". وفي ذلك العصر، انفتح العرب المسلمون على "الآخر" من دون أي تردد، وهو أمر ساعدهم عليه واقع أن زمام المبادرة التاريخية على الصعيد العالمي كان في طور الانتقال إلى أيديهم. وكما يشير الأستاذ بكوش، فقد ساهمت حركة الترجمة في تلك الفترة، وبخاصة النقل عن الفلاسفة اليونانيين، بصورة غير مباشرة في تطوير اللسان العربي، كما كانت مقدمة لانتقال العرب إلى الإبداع الذاتي في علوم وفنون شتى.
وقد تطور اللسان العربي في ذلك العصر، الذي امتد من القرن الثاني حتى الخامس للهجرة (من الثامن إلى القرن الحادي عشر للميلاد)، في ظل صعوبات كثيرة واجهها المترجمون في إيجاد الألفاظ العربية المناسبة لصياغة الفكرة من اللغة المنقول منها إلى العربية، وفي ظل معارضة دعاة "النقاء اللغوي" والمدافعين عن "قدسية" اللغة العربية . وكما يذكر الأستاذ محمد سواعي، فقد كان استنباط المفردة يمر في مراحل مختلفة، حيث كان المترجم يسعى، في البدء، الى اختيار المفردة العربية، وفي حالة العجز يلجأ إلى استعمال الكلمات الأجنبية مع شيء من التعديل لتناسب الأبنية العربية. وفي مراحل تاريخية متأخرة، كان يتم استبدال بعض هذه الكلمات الأجنبية بكلمات عربية منحوتة . أما بخصوص طريقة الترجمة، فقد كان بعض المترجمين يعتمد الترجمة الحرفية، وبخاصة حينما تكون النصوص الأصلية صعبة، بينما اشتهر البعض الآخر بمعارضة الترجمة كلمة مقابل كلمة، وتفضيل طريقة الترجمة التي تعتمد المعنى، لا سيما في المجالات غير الحسية. وفي بعض الأحيان، كان الكتاب المنقول إلى اللغة العربية يمر بترجمات عديدة قبل أن يصبح مقبولاً، كما كان يقوم بتصحيحه مصححون أكفياء في أحيان أخرى.
أما حركة الترجمة في عصر النهضة الحديثة فقد ازدهرت، هي الأخرى، في مناخات شهدت ولادة فئة حديثة من المثقفين التنويريين، وتوجهاً رسمياً نحو إقامة نظام تعليمي حديث، حيث شكلت الترجمة، إلى جانب المدارس الحديثة والبعثات والرحلات، قناة رئيسية لانتقال الأفكار والنظم الحديثة إلى البلدان العربية. ولم يكن لهذه الأفكار والنظم أن تنتقل لو لم يقبل المثقف التنويري الحديث مبدأ التفاعل الحضاري ويشرعن الاقتباس عن الآخر المتقدم، ويتعامل تعاملاً نقدياً مع التراث، ويتحرر من أسر إشكالية العلاقة بين التراث والمعاصرة ويتطلع بصورة لا لبس فيها إلى المستقبل. فمن خلال المقارنة بين وضع اللغة العربية ووضع اللغات الأوروبية، طُرحت مسألة اللغة في عصر النهضة الحديثة، وذلك في إطار مشروع تحديث أو إصلاح مجتمعي شامل، حيث قام مشروع الإصلاح المجتمعي، الذي تبناه الإمام محمد عبده، على سبيل المثال، على دعائم ثلاث هي : إصلاح الدين، وإصلاح السياسة وإصلاح اللغة العربية.
وكما يلحظ الأستاذ البكوش، فقد عاني رواد النهضة الحديثة معاناة لغوية شديدة في نحت الألفاظ والمصطلحات العربية الجديدة، وفي نقل الأفكار والنظم الحديثة التي تعرفوها من خلال احتكاكهم بأوروبا، وهو ما نلمسه في تجربة رفاعة رافع الطهطاوي، الذي برز اهتمامه بالمسائل اللغوية خلال سنوات إقامته في فرنسا، حيث كان مطلوباً منه أن يقوم بترجمة بعض النصوص الفرنسية في مواضيع مختلفة كي يحصل على إجازة الترجمة. وفي مواجهة افتقاد المعاجم الفرنسية – العربية، وغياب المصطلحات العربية المناسبة للتعبير عن الأفكار والنظم الحديثة، اضطر الطهطاوي – مثلما يرى سواعي – إلى الابتكار، فلجأ بشكل أساسي إلى طريقتين في إيجاد المصطلح العربي: الأولى تمثلت في استعمال المفردات العربية الواردة في اللغة الفصحى أو في اللهجة الدارجة، والعمل على توسيع معاني هذه المفردات أحياناً لتشمل الأفكار الجديدة، والثانية تمثلت في اللجوء إلى تعريب المصطلحات الفرنسية عندما لم تتوفر المفردات العربية. وقد تطرق الطهطاوي إلى الشروط الواجب توافرها في المترجم والى الأبعاد الثلاثة لمسألة اللغة، لدى تعريفه الترجمة وصعوباتها، حيث ذكر بأن فن الترجمة "يعني ترجمة الكتب وهو من الفنون الصعبة، خصوصاً ترجمة الكتب العلمية، فإنه يحتاج إلى معرفة اصطلاحات أصول العلوم المراد ترجمتها فهو عبارة عن معرفة اللسان المترجم عنه وإليه، والفن المترجم فيه".
والواقع أن كل الذين تصدوا لمسألة اللغة من رواد النهضة الحديثة كانوا من الملمين باللغات الأجنبية ومن المبدعين في حركة الترجمة. فإتقان فارس الشدياق للغات عديدة، مثل السريانية والإنكليزية والفرنسية، وعمله في حقل الترجمة، قد مكناه من إجراء مقارنات بين هذه اللغات الأجنبية وبين اللغة العربية، دفعته إلى إدراك ضرورة تحديث هذه الأخيرة وإغنائها بإدخال مصطلحات جديدة إليها، واستحداث معاجم حديثة تتوافق مع متطلبات العصر. وقد اقترح الشدياق عدة وسائل لنقل الألفاظ الجديدة إلى العربية، مثل التعريب الذي يقوم على نقل الألفاظ الأعجمية بصيغتها وحروفها، لكنه اعتبر بأن اللجوء إلى هذه الوسيلة لا يجب أن يتم إلا في حالة الضرورة، مؤكداً "أن هذا الدخيل إنما يغضى عنه إذا لم يوجد في أصل اللغة ما يرادفه أو لم يمكن صوغ مثله". وبالإضافة إلى التعريب، اقترح الشدياق اللجوء إلى إيجاد المرادف للفظ الأجنبي أو اشتقاق لفظ مثل اللفظ الأجنبي، إذا انتفى المرادف، حيث كتب :"فما الحاجة إلى أن نقول فبريقة أو كارخانة ولا نقول معمل أو مصنع، أو أن نقول بيمارستان ولا نقول مستشفى أو أن نقول ديوان ولا نقول مأمر". وبالإضافة إلى حل مسألة المصطلح الجديد، لعب إتقان اللغات الأجنبية والعمل في حقل الترجمة دوراً مهماً في تحسين أساليب الكتابة العربية في ذلك العصر. ففي مواجهة أساليب كتابة ركيكة يسيطر عليها السجع على حساب المحتوى، أكد الإمام محمد عبده، في إطار دعوته إلى تحرير الفكر من التقليد، ضرورة إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير "سواء في المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها، أو فيما تنشره الجرائد على الكافة منشئاً أو مترجماً من لغات أخرى أو في المراسلات بين الناس"، وذلك بهدف التخلص من أسلوبين في الكتابة "كلاهما يمجه الذوق وتنكره لغة العرب .. الأول ما كان مستعملاً في مصالح الحكومة وما يشبهها، وهو ضرب من ضروب التأليف بين الكلمات رث خبيث غير مفهوم، ولا يمكن رده إلى لغة من لغات العالم .. والنوع الثاني ما كان يستعمله الأدباء والمتخرجون من الجامع الأزهر، وهو ما كان يُراعى فيه السجع، وإن كان بارداً، وتلاحظ فيه الفواصل وأنواع الجناس، وإن كان رديئاً في الذوق بعيداً عن الفهم ثقيلاً على السمع، غير مؤد للمعنى المقصود ولا ينطبق على آداب اللغة العربية".
غير أن انعكاسات حركة الترجمة في عصر النهضة الحديثة على اللغة العربية لم تقتصر على إغنائها بالمصطلحات الجديدة وتحسين أساليب تحريرها، بل تعدت ذلك إلى المساهمة في خلق أجناس أدبية جديدة، حيث أخذ الكتاب والأدباء يحذون حذو الكتب المترجمة، فبرز أدب الرواية والقصة القصيرة وفن المسرح، وظهرت حركة تجديد الشعر وتطور فن كتابة المقالة الأدبية والاجتماعية والعلمية.
ويبدو لي بأن الانقطاع الذي شهده مسار حركة النهضة والتنوير، والذي تزامن مع بدء مرحلة الاستعمار الأوروبي، قد ترك تأثيره على مسألة اللغة وأضعف إسهام الترجمة في حل المسائل اللغوية، بل وغيّب مسألة اللغة بوصفها مسألة مجتمعية نهضوية في المقام الأول، وذلك على الرغم من الدور الهام الذي صارت تضطلع به مجامع اللغة العربية التي راحت تتشكل في دمشق والقاهرة وبغداد، ومن التطور الذي طرأ على حركة تأليف المعاجم العربية. فبعد أن طغى الوجه الاستعماري للغرب على وجهه التنويري، برز تحفظ تجاه مبدأ التفاعل الحضاري والاقتباس عن الآخر. كما أن غلبة ما أسماه ناصيف نصار بالتصور اللغوي للأمة على الحركة القومية العربية قد أعاد إحياء النظرة اللاتاريخية إلى اللسان العربي. فقد أقام منظرو القومية العربية سداً منيعاً بين الحضارة، من جهة، والثقافة، من جهة ثانية، معتبرين أن الأولى، التي تشمل العلوم والتقنيات وطرائق الإنتاج، هي بطبيعتها "أممية" ويمكن بالتالي اقتباس منجزاتها، في حين أن الثانية، التي تشمل الآداب واللغة، هي في حد ذاتها "قومية". وبخصوص الموقف من اللغة العربية، اعتبر زكي الأرسوزي، على سبيل المثال، أن الانبعاث القومي يتطلب الكشف عن "عبقرية" الأمة العربية في تراثها، ولا سيما في لغتها، وذلك "لأن لغتنا، التي هي أبلغ مظهر لتجلي عبقرية أمتنا، هي مستودع لتراثنا، فما لنا إلا أن نعود ونحياها عن وعي حتى نبلغ ما بلغه أجدادنا من سؤدد وعزة".وأكد، لدى إجرائه المقارنة بين اللغة العربية واللغات الأخرى، أن العربية قد ظلت ثابتة وخالدة على مر العصور ومحافظة على الانسجام "بين الصميم والمظهر" خلافاً للغات الأخرى التي شهدت تحولات كثيرة، وأن الكلمة "الدخيلة" تبقى "نابية" في اللغة العربية، وذلك لأن اللسان العربي "طبيعي" ، كلماته ذات أصول في الطبيعة، في حين أن "اللغات الأوروبية تاريخية، حصلت منظومة ألفاظها من اللاتينية".
والواقع ، أن مسألة اللغة بقيت من المسائل العالقة، في مرحلة ما بعد الاستقلال، إلى جانب مسائل مجتمعية عديدة، مثل مسألة الإصلاح الديني والإصلاح السياسي وتحرير المرأة، وذلك لأن مشروع النهوض الذي حملها لم يصل إلى غاياته النهائية. وفي ظني، فإن عاملاً رئيساً من العوامل التي أعاقت إنجاز هذا المشروع تمثل في بقائنا أسرى ثنائية الأصالة والمعاصرة، وهو ما جعلنا نضفي القدسية، الدينية والقومية، على اللغة من منطلق الحفاظ على هذه الأصالة. واليوم، ومع تعمق الفجوة المعرفية بيننا وبين "الآخر" المتقدم، وتزايد حاجتنا إلى الترجمة والتعريب، في ظل التقدم الهائل الذي يحصل في ميادين العلوم والتقنيات والتطور السريع الذي يطرأ على وسائل نقل المعارف، تنفتح آفاق جديدة أمام السؤال عن دور حركة الترجمة في حل مسألة اللغة. وخلافاً للذين يعتقدون بأن إيجاد المصطلح الجديد لم يعد صعباً، وأن التحدي المطروح اليوم يتمثل في إغناء العبارة، أرى – ومن خلال تجربتي الشخصية في حقل الترجمة – بأن مسألة اللغة لا تزال مطروحة بأبعادها الثلاثة، أي من ناحية المصطلح والعبارة والفكرة في آن معاً، وذلك ليس لأن اللغة العربية لم تتطور خلال القرنين الماضيين، وإنما لأن تطور اللغة – كل لغة – هو مسألة مفتوحة، ولأن هناك هوة لا تزال تفصلنا، من زاوية التقدم المجتمعي والمعرفي، عن "الآخر".
فبخصوص المصطلح نلاحظ بأن حركة تطور العلوم والمعارف تنتج باستمرار مصطلحات جديدة ينبغي علينا أن نعربها أو أن نجد مرادفاً لها. فعلى سبيل المثال، نشأ في العقدين الأخيرين من القرن العشرين – كما يذكر عبد الرزاق الدواي – مبحث معرفي جديد يهتم بالتفكير الفلسفي والقانوني في المشاكل الأخلاقية الناجمة عن الأبحاث والدراسات المعاصرة في علوم البيولوجيا وبصفة خاصة في فرعها المختص بالهندسة الوراثية، ويعرف هذا المبحث الآن بالمصطلح الجديد”bioethique”، وهو مصطلح لم يُعتمد في القواميس اللغوية إلا في عام 1982، وترجمة الباحث نفسه باللجوء إلى ثلاث كلمات، بدلاً من كلمة واحدة، هي " أخلاقيات الطب والبيولوجيا". ومن جهة أخرى، لا تزال عملية نحت المصطلحات الحديثة تواجه صعوبات معينة، ومنها، على سبيل المثال، فقر اللغة العربية بأدوات السوابق واللواحق Prefixes etsuffixes) التي تسهل استنباط مفردات جديدة، وكذلك صعوبة نحت كلمات مركبة باللغة العربية. وبخصوص مشكلة توحيد المصطلحات الجديدة، على الصعيد القومي العربي، اعتبر بعض المختصين أن مثل هذا الهدف غير قابل للتحقيق إلا في العلوم الدقيقة، أما في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية فينبغي ترك باب الاجتهاد الفردي مفتوحاً، بحيث تكون الكلمة التي يكثر استخدامها هي الأصح.
وأختم تعقيبي هذا بالتشديد على البعد الثالث لمسألة اللغة وعلاقتها بالترجمة، وهو تمثل الفكر، إذ يبدو لي بأن صعوبات الترجمة، في أيامنا هذه، مرتبطة بوجه خاص بالقدرة على فهم الخلفية الثقافية للنص الأجنبي. وفي هذا السياق، يُنقل عن الكاتب الفرنسي مورمونتيل، لدى وصفه عملية الترجمة، قوله :"إن عملية انتقاء الكلمات واستعمالها، تلك العملية التي نقوم بها أثناء النقل من لغة إلى أخرى، ليست تمريناً مفيداً للذاكرة فحسب، وإنما هي عملية تقتضي تحليل الأفكار، وإن دراسة اللغات لهي دراسة لفن تمييز الفروق الضئيلة بين الأفكار وتجزئة هذه الأفكار لفهم دقائقها والعلاقة بينها، وإن حفظ كلمات جديدة من لغة أجنبية ليصحبه دائماً اكتساب آراء جديدة، ولذلك فإني أعتقد أن طلاب السنين الأولى الذين يدرسون اللغات يتعلمون في نفس الوقت مبادئ في الفلسفة أعظم ثروة وأكثر اتساعاً وفائدة مما يتصور الإنسان".
ويبدو لي أن شرط تمكين الترجمة – التي تزايدت أهميتها اليوم، بالنسبة إلينا، أكثر من أي وقت مضى – من الإسهام في حل مسألة اللغة العربية، يتمثل في نزع كل قدسية وخصوصية عن لغتنا، والتعامل معها بوصفها لغة مثل كل اللغات تحتاج إلى تجدد متواصل وتغتني من خلال الانفتاح والتلاقح مع اللغات الأخرى، وهو شرط لن يتوافر إلا بعد أن نتجاوز الموقف المتحفظ تجاه مسألة التفاعل الحضاري والاقتباس عن "الآخر" المتقدم وننظر إلى الحداثة باعتبارها مكتسباً كونياً ساهم العرب في تجميع شروط ولادته في أوروبا، وأغتنى ولا يزال بإسهامات شعوب شرقية أخرى، وتنكر الغرب نفسه للقيم التي انطوى عليها حينما طغى وجهه الهيمني والاستئثاري على وجهه التنويري والإنساني.
إشارة : استفادت هذه الدراسة من المصادر والمراجع التالية :
- الأشموني، حسن، أثر الترجمة في حضارة العرب، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1960.
- الترجمة في الوطن العربي. نحو إنشاء منظمة عربية للترجمة (ندوة عقدت في بيروت من 10 – 13 أيار 1998) ، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، شباط 2000.
- الترجمة ونظرياتها (إعداد مجموعة من الأساتذة الجامعيين)، قرطاج ، تونس، بيت الحكمة، 1989.
- الخوري، شحادة : الترجمة قديماً وحديثاً، سوسة – تونس، دار المعارف، 1988.
- الدواي، عبد الرزاق: "حول إشكالية ميلاد مفهوم جديد". في : المفاهيم، تكونها وسيرورتها، الرباط، جامعة محمد الخامس، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 87، تنسيق محمد مفتاح وأحمد بو حسن، ص21-38.
- سواعي ، محمد : أزمة المصطلح العربي في القرن التاسع عشر. مقدمة تاريخية عامة، دمشق، المعهد الفرنسي للدراسات العربية، 1999.
- شرابي، هشام: النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، كانون الثاني، 1992.
- الشريف، ماهر: "أحمد فارس الشدياق ودور اللغة في النهضة"، الطليعة، القدس، 7 كانون الأول 1995، ص4، "اتجاهات الإصلاح في فكر محمد عبده"، المصدر نفسه، 17 تشرين الثاني 1994، ص4.
- الشريف، ماهر : رهانات النهضة في الفكر العربي، دمشق، دار المدى، 2000.
- الطهطاوي، رفاعة رافع: تخليص الإبريز في تلخيص باريز،الأعمال الكاملة، الجزء الثاني، دراسة وتحقيق محمد عمارة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1973.
- العروي، عبد الله : ثقافتنا في ضوء التاريخ، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1992 (الطبعة الثالثة).
- عصام الدين، احمد: حركة الترجمة في مصر في القرن العشرين، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986.
- محفوظ، عصام: حوار مع رواد النهضة العربية، لندن، رياض الريس للكتب والنشر، 1988.
- المطوي، محمد الهادي: احمد فارس الشدياق. حياته وآثاره وآراؤه في النهضة العربية الحديثة، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1989.
- المقدسي، أنطون (اعداد) : تقرير عن وضع الترجمة في القطر العربي السوري، دمشق، [من دون تاريخ نشر ولا ناشر].
- من قضايا اللغة العربية المعاصرة، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1990.