العربية وتحديات تعريب العلوم، بقلم د. مسعود عمشوش
تعد اللغة من أهم مرتكزات بنيان الأمة. إذ إنها وعاء الفكر والعلم والثقافة، وأداة التعبير والتواصل بين الناس. واليوم لاتعطي أية دولة جنسيتها لأي شخص لايتقن لغتها.
والعربية، لغة القرآن، هويتنا. ولايختلف اثنان في أنها لغة بيان ولغة علم. فهي قد حفظت للأوروبيين جزءا كبيرا من تراثهم القديم، ومنها أخذوا كما هائلا من المعارف والعلوم التي ساعدتهم على النهضة.
ومن المعلوم أن الدول الاستعمارية بذلت جهودا لفرض لغاتها وجعلها لغة التعليم والعلم في بقاع كثيرة من الوطن العربي. واليوم، رغم زوال الاستعمار-المباشر على الأقل- لاتزال اللغة العربية مستبعدة من تدريس العلوم في كثير من الجامعات العربية، رغم النداءات الصادرة عن المجامع اللغوية والجامعة العربية ونداءات العلماء العرب الداعية إلى اعتماد اللغة العربية في التدريس في مختلف المجالات. ومن المؤسف حقا أن نسمع عددا من الأصوات العربية التي تصر على رفض تبني تدريس العلوم بلغتنا القومية، كما تفعل الأمم والدول الأخرى، حتى الصغيرة منها مثل فنلندة والنرويج والسويد.
ومن المؤكد أن تعليم العلوم بلغة أجنبية لايساعد أبدا على خلق علماء وباحثين متميزين. وهناك أبحاث تبين أن استيعاب القارئ لنص مكتوب بلغته الأم يزيد على مستوى استيعابه للنص نفسه بأي لغة أجنبية، بما في ذلك الإنجليزية. وتشير تلك الأبحاث إلى أن سرعة القراءة باللغة الأم تزيد على سرعة القراءة باللغة الأجنبية بنسبة 43%.
وهذا يعني أن تعليم العلوم باللغة الأجنبية ينطوي على إهدار للجهد والوقت وضعف في الاستيعاب، ولهذا السبب نلاحظ أن أساتذة كليات العلوم والطب، التي لاتزال تدرس باللغة الإنجليزية، يشرحون المواد باللغة الأم توفيرا للوقت!.
والدعوة إلى التدريس باللغة العربية لاتعني أبدا إهمال اللغات الأجنبية. بل العكس هو الصحيح. فبواسطة تعلمنا للغات الأجنبية يمكننا الاطلاع على ثقافة الآخر وإبداعاته واختراعاته في المجالات العلمية وغيرها. وأي تفكير جاد للمضي قدماً في مسيرة تعريب تعليم العلوم في الوطن العربي وحمايتها من الانتكاسات التي تتعرض لها بعض التجارب لن يتأتى– في اعتقادنا- إلاّ من خلال إيجاد آليات فعالة لنقل الكم الهائل من المعارف والمعلومات الجديدة التي تظهر يومياً في مختلف اللغات الأجنبية وفي مختلف المجالات العلمية إلى اللغة العربية، وهو الأمر الذي يمكن أن يطمئن الباحث والأستاذ والطالب على مواكبتهم للمستجدات التي تطرأ يومياً على تخصصاتهم في حال اعتمادهم اللغة العربية في التعليم والبحث العلمي. وهذا لن يتأتى إلا من خلال الرفع من مستوى تعليم اللغات الأجنبية، بهدف خلق أكبر عدد ممكن من المترجمين والاهتمام بهم وتحفيزهم معنويا وماديا. ويمكن أن نذكر هنا أن النهضة التي شهدتها الحضارة العربية في القرون الهجرية الخمسة الأولى تزامنت مع اهتمام كبير بحركة الترجمة والنقل من اللغات الأخرى.
وبالإضافة إلى ضرورة الاهتمام بتعليم اللغات الأجنبية والمترجمين، ينبغي لنا اليوم أن نولي عناية بالترجمة الآلية. فقد بات من المسلّم به أنّ المترجمين العرب، مهما ارتفع عددهم، لن يتمكنّوا من نقل الكم الهائل من المعارف والمعلومات الجديدة إلى اللغة العربية من دون اللجوء إلى نظم الترجمة الآلية التي لاتزال- في ما يخص اللغة العربية- تواجه كثيرا من المصاعب، وذلك بسبب تأخرنا في الإسهام في البحث الجاد في العلوم الحديثة التي تدخل في إطار المعالجة الآلية للغات الطبيعية.
ولا شك أن كثيرا من معضلات الترجمة بشكل عام ستذلل إذا ما تضافرت جهود أكبر عدد من علماء اللغة والحاسوب والترجمة، وذلك من خلال الشروع في تبني مناهج حديثة لتعليم اللغة العربية، تركز على رفد الطالب بلغة مضبوطة في المستويات الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية، وتدريبه في الوقت نفسه على تقنيات ومهارات اللغة العربية الوظيفية التي يحتاج إليها في حياته اليومية والمهنية، وكذلك على وضع المعاجم الحديثة التي لا غنى عنها في مختلف أنواع الترجمة والتعريب.