هكذا تكلم مالك ابن نبي الجزائري على الحضارة
خالد الزنجي
يعتبر المفكر الجزائري مالك بن نبي من المفكرين القلائل الذين وضعوا يدهم
على الجرح الغائر للأمة بعيدا عن المزايدات (1905-1973)العصبوية، واستطاع
تشخيص المرض المتورم الذي مازلنا نعانيه على كافة المستويات والأصعدة، ولا
عجب في ذلك لان المتتبع لنتاجات وأفكار مفكري المغرب العربي بشكل عام يجد
ان أطروحاتهم في الفكر والتاريخ والتراث والحداثة وتشخيصهم لأمراض الأمة
أكثر دقة من اقرانهم في المشرق العربي، لأنهم بعيدون عن مركز الزلزال
الطائفي المزمن في الشرق مما جعل ذاكرتهم غير مثقلة بتركة الماضي، اما
مفكرو المشرق فقد فرض عليهم مؤثرات المكان ضغوط نفسية واجتماعية ومذهبية
ربما تعوقهم عن الطرح الأمثل لقضايا الفكر والتاريخ الإسلامي وتعلق فيها
بعض الرواسب المتفشية عند (العامة)، كل هذه الضغوط تحرر منها مفكرو المغرب
العربي وهم مدينون لما يطلق عليها عبقرية الجغرافيا التي أبعدتهم عن
المركز الذي تولدت فيه البؤر الطائفية، وهذا ما يرسخ نظرية تأثيرات عاملي
المركز والهامش في التاريخ الاسلامي، ومن هنا تبرز كتابات محمد عابد
الجابري ومحسن جعيط وعبدالإله بلقزيز وغيرهم من الذين لهم إسهامات كثير في
قضايا الفكر العربي المعاصر.
يرى مالك بن نبي صاحب النظرية الشهيرة ( القابلية للاستعمار) وهو يحدد
معالم الشخصية العربية /الإسلامية المعاصرة ان ما وصل إليه انسانها من
تمزق وتخلف لم يكن وليد اليوم وليس سببه الاستعمار الذي جثم على صدر
العالم العربي وانما وبحسب تعريفه - لعلم الاجتماع - ان الانسان هو احد
مظاهر استمرارية الاجيال عبر التاريخ، هو المظهر الاجتماعي التاريخي الصرف
الذي يعرفه بأنه عبارة عن اتصال الأسباب ببعضها البعض الآخر.
ومن خلال هذا التعريف، وبعد قراءة ابن نبي للتاريخ قراءة ديناميكية حية
حسب القراءة التي يريدها عقيل عباس(1) يرى ان الانقلاب الذي حصل في الأمة
لم يكن انقلاباً سياسياً، بل هو انقلاب في النظم الذي بدأ واضحا في عصر
ابن خلدون (1333-1406م) وهذا الانقلاب لم يكن فجائياً حسب تعبيره بل هو
‘’نهاية البتر القديم الذي حدث بعد واقعة صفين (37هـ) الذي احدث ولأول مرة
تفسخ في العالم الإسلامي اسس لانفصالات قادمة في الأمة حتى اتى زمن ليس
فيه من فرد يقوم على حفظ السلطان والاستيلاء عليه والتوفيق بينه وبين
النظام الجديد، فاذا بالصولجان يهوي من تلقاء نفسه ويتحطم فيسارع صغار
الملوك إلى الاستيلاء على أشلائه المتناثرة
وبذلك يعتبر مالك بن نبي ان ذلك البتر القديم قد أدى إلى القضاء على
التوزان المادي / الروحي الذي يبني المدنية الحديثة مما أحدث خللاَ في
النظام الاجتماعي العربي/الإسلامي، وبالتالي نحن أمام هذا الإنسان الذي
فقد الدفقة القرآنية والدفقة المدنية ليصبح عاجزاَ عن التمثيل والإبداع
وبالتالي عجز الناس عن استخدام عبقريتهم للاستفادة من أرضهم وزمانهم بحسب
تعبير بن نبي.
كان وجود التوازن الروحي/ المادي ضروري لصيرورة مجتمع متكامل يرقى إلى
الحضارة فكل المجتمعات بحاجة إلى قيم (الروح) وان الدين هو عامل مساعد على
وجود القيم باعتبارها قوة أساسية في بناء المجتمعات كما ان ان العلم
والآداب والفنون والعمران (المادي) هو أيضاً عامل آخر من عوامل رقي
المجتمعات، ولذلك فإن أي قفز على هذه المعادلة ما هو سوى تشويه للتوازن
الأصلي الذي أراده القرآن الكريم والقائم على أساس الروح والعقل، وقد أدان
مالك بن نبي أولئك المرابطين الذين انزووا وتخلوا عن مسؤولياتهم
الاجتماعية مثلما يدين حالة الانفلات الأخلاقي والضياع الفلسفي الوجودي.
هذا المرض الذي استتر في جسد هذه الأمة (كالسرطان) إلى حين سقوط دولة
الموحدين وظهور ما اسماه مالك بن نبي انسان ما بعد هذه الدولة التي
بسقوطها سقطت معها المدنية فتحولت مدينة كمدينة القيروان التي ازدهرت أيام
الاغالبة حتى وصل عدد سكانها إلى مليون نسمة إلى مدينة حقيرة (ودائماً حسب
تعبير ابن نبي) وكذلك مصير بغداد وسمرقند والنتيجة التي توصل إليها مفكرنا
يصورها بهذا التصوير المعبر ‘’بدا في كل مكان دلائل الانحلال العام التي
تشير إلى نقطة الانحناء في سير المدينة الإسلامية’’، نقطة الانحناء هذه
التي يشير إليها مالك بن نبي تسبب لنا في خلق انسان آخر سيكون بعد قرون
طويلة موجود بداخلنا نحن انه انسان ما بعد دولة الموحدين.
بحسب نظرية الوراثة الاجتماعية التي تعني ان نشاط الافراد في المجتمع
واذواقهم تكون مشتركة يتوارثها الاجيال، فإننا نحن ندين لإنسان ما بعد
الموحدين بوراثتنا الاجتماعية له، بل انه لم يكن فقط الباعث على أخطائنا
الحاضرة (انظر ما يحدث في العراق وافغانستان وغيرها) وانما هو مشترك فيها،
كما اننا لم نورث نفسيته التي تولت عن إفلاس اخلاقي واجتماعي وفلسفي بل
توالد أيضاً ويضرب مالك بن نبي أمثلة على انساننا، فيقول ان إنسان الماضي
موجود في الحاضر عند الإنسان الفلاح وحامل البكلوريا فحتى صاحب البكلوريا
(الانسان الجديد) في ظاهره جديد ولكن اذا ما سبرنا غور نفسه وجدناه هو
ذاته انسان ما بعد الموحدين ويخلص إلى نتيجة ان انسان ما بعد الموحدين
سواء أكان باشا أم عالم أو شبه مفكر أم شحاذاً من العنصر الاساس لجميع
مشاكل العالم الإسلامي.
هذه النظرية التي طرحها هذا المفكر العربي الإسلامي الحداثي قبل نصف قرن
تقريبا ولعلها تعتبر هي حالة تقدمية في النظر إلى التراث والتاريخ
الإسلامي ولو تلقفتها التيارات الإسلامية المعاصرة وطورتها في أدبياتها
لربما حدث نتاج فكري آخر بعيداً عن التكفير والإقصاء والدخول في صراعات
تفييد الأمة بشيء بل على العكس ولامكننا التخلص من ذلك الإنسان القابع
فينا (انسان ما بعد الموحدين) ولكن ابينا الا أن نكون كحاله أو اردى، فما
أشبه الليلة بالبارحة.